سطات نموذج المدينة التي أخطأت مواعيدها
عشت مع مدينة سطات في أكثر مساراتها وهما، حيث كان لها النفوذ السياسي القوي، لكن عوض أن تصنع حضارة صنعت أوهاما وسوقتها أوسع نطاق.
ولما فقدت راعيها ومحتضنها الراحل ادريس البصري، استيقظ الناس فيها على خصاص فظيع، خصاص مس البنيات الترفيهية والاستشفائية والتعليمية بالمقارنة مع مدن وجهات أخرى.
لكن لا ننكر وللتاريخ أن هذا الراحل ورجل الدولة المحنك والكتوم والحافظ أسرار المملكة على عهد الراحل الحسن الثاني، تمكن من أن يوفر للمدينة جامعة احتضنت العلوم القانونية والاقتصادية والسياسية والتقنيات، ومدرسة وطنية للتجارة التي باتت النخب تبحث فيها لأبنائها عن مقاعد للدراسة، وشجع على رياضة الغولف وشيد مسبحت أولمبيا وشارعت رئيسيا يشبه شوارع مدينة جونيف السويسرية.
وكان الحواريون والمحيطون به والمقربون منه، يبحثون عن الغنائم لأنفسهم ويتشدقون بأن سطات باتت مركز استقطاب قوي لرؤوس الأموال والشركات الدولية.
وما أن تغير الزمان حتى كشفت عروس سطات، عن ندوبها وعن خصاصها المهول، الذي لم يتجرأ السابقون على الجهر به أو حتى البوح.
كنت أستغرب كيف كانت الإدارات تقدم مونوغرافيا للإقليم على أساس أنه قريب من مطار محمد الخامس، ويربط بين الشمال والجنوب وتخترقه السكك الحديدية. وهناك من أخذه الحماس للتحدث عن انفتاحها على السوق الأوربية ويمكنها الاستفادة من هذه السوق على مستوى التسويق، من هؤلاء نواب برلمانيون كانوا كالغياطة، يطبلون ويزمرون على أن سطات قادمة بقوة ولم ينتبهوا أن هذه القوة، كانت سائرة نحو منحدر الجب العميق.
كان المهندسون يحلمون بإعادة إحياء الحي اليهودي، والمحافظة على طابعه المعماري، ويقدمون الرسوم المعمارية التي ستعيد للحي ذاكرته، وتحافظ على تراثه الوطني، لكن كانوا في العمق والجوهر يروجون لأضغاث أحلام، وما أن رحل ابن المدينة إلى مأواه الأخير حتى لف المدينة البؤس، وصارت تبحث في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لمعالجة جراحها وخصاصها القوي والمتراكم منذ سنوات.
الناس الذين راكموا الثروات في زمن الراحل من الريع والامتيازات، غابوا عن المدينة ولم يعودوا يترددون على ملعب الغولف ومقهاه الذي أغلق أبوابه وشرد عماله، وأن صاحب المقهى كان لا يتردد في ذلك الزمان في تقديم خدماته التي يؤمر بها من طرف الرجل القوي..
كانت الشخصيات السياسية تنتظر معالي الوزير في المقهى، التي كانت تديره طبيبة من أسرة يسارية، وعلية القوم ينتظرون طلعته لتقديم الطلبات أو البحث عن تدخلات للاقتراب من دوائر القرار في البلاد.
وفجأة تبخر كل شيء، ولم يعد أولئك الذين تذللوا يتواضعون اليوم لزيارة المدينة.
أقولها جهرا مدينة سطات، مدينة بكر، لها من الإمكانيات الطبيعية والبشرية ما يؤهلها موضوعيا لاحتلال مكانة رائدة بين مدن المملكة، لكن ما الذي ينقصها؟؟
تنقصها الإرادات الوطنية لإقلاع حقيقي، وينقصها التفكير في إبداع المبادرات والتعريف بإمكانيتها لاستقطاب الرساميل المنتجة للثروة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون الجدد، أما من رضعوا من ثدييها حليبا ودما حان لهم الوقت كي ينسحبوا من الساحة في صمت.