افتتاحية مجلة 24: سارقو، كلام وأوجاع الناس
عشت ردحا من الزمن، آمنت فيه بالقيم الاجتماعية المثلى، ووجدت رفاقا تقاسموا معي هذه الهموم، وحرضوني على تبنيها، واللغة لا تسعفني بالبوح وبكل الأحلام والآمال التي صنعوها في عقلي وفؤادي.
كنا نجتمع في المساءات الباردة، داخل قاعات ضيقة، نراجع فيها أحلام الناس ومشاغلهم اليومية: عامل يكابد بعدم التصريح به بالضمان الاجتماعي، فلاح صغير لم يصله الدعم الذي سمعه بالتلفاز وحديث الناس، امرأة توفي معيلها ولم تلق مقعدا لابنها بالخيرية، التي قيل عنها أنها مجال للتعبير عن التضامن الاجتماعي، الذي يحتفظ به هذا المجتمع كعنوان لتقاليده القديمة ولتراثه العريق.
في الواقع، انتبهت متأخرا أن زمرة من الرفاق، لما نضجت ظروفنا الوطنية، وسمحت لقوى اليسار بالمشاركة في تدبير الشأن العام الوطني، صاروا أكثر من كل الناس حفاظا على ربطة العنق، وعلى لياقة أجسامهم أمام الكاميرات، لم تعد لهم تلك الصفات القديمة، في التودد للناس ومحبتهم، صاروا أكثر شدة من الذين سبقوهم، وتربعوا على الكراسي قبلهم . على الأقل أولئك الرجال الذين نسميهم في تاريخ هذا البلد بالإداريين، كانوا أكثر خجلا ووداعة، من هذا الرهط الذي جربناه وكم جربناه، لكنه أهدر أحلام الناس، وزاد من حدة فقرهم ومعاناتهم، بالشعارات والإيديولوجيات التي تزاوج فيها الرأس مال بالإسلام وبما تبقى من الاشتراكيات في عالم، فقد بوصلته في زمن الانهيارات الكبرى واستقرت سفنه الضائعة فوق مياه اقتصاد السوق.
صار كل شيء، قابلا للتبضيع، من الصحة إلى التعليم إلى القيم البشرية، وغدت السوق الواسعة هي الفيصل، ولها الحق في التقييم والتقويم. ثم انتهت البشرية إلى أمور فظيعة، لم تقو على حلها. صارت الوفرة في الإنتاج، لكن الناس لا يستطيعون الاستهلاك والأجور التي يبيعون من أجلها عرق الجبين لا تمكنهم من العيش الكريم.
مفارقات كبرى، زادت من الاختلالات، وعمقت الهوة بين الناس، في نفس الفضاءات والأمكنة ، أناس يتسلقون الجسور الاجتماعية، وآخرون يتساقطون بكثرة كأوراق الخريف لتزداد الهوة اتساعا بين نفس البشر.
المفارقات الكبرى أتت، من أن الناس الذين اشتركنا معم في نفس الإرث، ونفس التطلعات، اكتشفوا أن السياسة فضاء للاغتناء ولمراكمة الثروات، ولحجز آمال الناس في غرف الكلام والخطابات التي لا تنتج عملا ولا خبزا للجياع.