افتتاحية مجلة 24 … الجامعة ومحيطها
ما وقع في سطات من صراع وضجيج أثناء مناقشة إحدى الأطروحات، في موضوع الفساد الإداري، وما تلى ذلك من تسرب شريط فيديو يوثق لما شهدته المناقشة، من زيغ وانزياح عن أصول النقاش الفكري المعهود لدى أساتذتنا الأجلاء، الذين تربينا معهم على قواعد الإنصات، والاحترام للأفكار والآراء، ومحاجتها بالدليل والبرهان، وباستحضار تاريخ الأفكار والنظريات العلمية، وليس الانزلاق بمغادرة الكراسي العلمية والسقوط في مستنقع هيجان الأعصاب والصياح وخروج رغوة الأفواه.
ما حدث يعيد إيقاظ الإشكالية التي تضاربت حولها المواقف والآراء، في ضرورة ارتباط الجامعة بمحيطها والتفاعل معه، وكان هناك رأي يقول: أن هذا المحيط الموسوم بالتخلف، وسيطرة قيم التسلق الاجتماعي والغش والاعتماد على الخرافة والأسطورة والتنكر للقيم الإنسانية النبيلة، سيضر بالجامعة آنيا ومستقبلا.
كان على الجامعة المغربية أن تلعب بمثقفيها ومفكريها دور القاطرة، التي تروج وتدافع عن الفكر التنويري والانتصار له، في مجتمع يشكل العمق المحافظ فيه القوة الرادعة والكابحة لهذا التوجه الحداثي والعلماني..
تاريخيا وفي البدايات الأولى لتأسيس النواة الجامعية المغربية، قادت ثلة من المفكرين هذا الطموح المجتمعي، وتأصل الدرس الجامعي على أسس علمية من الثقافة العربية في تلاقحها مع مثقفي مصر ولبنان ومع الثقافة الفرنسية وإرثها التنويري وتأسست المدرسة الاقتصادية، التي تحمل هويتها المغربية مع الأستاذ الجليل عزيز بلال كما عرف الإلمام والتقعيد لمدارس الفقه اللغوي في علاقته بالثقافة الفارسية على يد العلامة ابن تاويت والمختار السوسي وعباس الجراري وفي السيسيولوجيا بول باسكن.
إنها الأجيال التي دافعت بقوة عن تراث ينتسب لتربتنا ويكشف عن بصمات مساهمة المغاربة، في الفكر الإنساني.
كان الحرم الجامعي في ظل تأطير الاتحاد الوطني للطلبة المغرب، يجعل من الساحة الجامعية المغربية، بؤرة للنقاش الفكري والسياسي وحضور الثقافة الإنسانية لدى روادها في الفلسفة والرواية والمسرح والسينما والغناء..
لكن اليوم صارت الجامعة المغربية، لا تحمل مشروعا واضحا في قيادة المجتمع ومساعدته، على تخطي العوائق التي تيسر انخراطه في مجتمع الحداثة.
اليوم صارت الجامعة، تهيمن عليها تيارات فكرية عقيمة وتنتج أفكارا لا ولن تساهم في تطوير تطلعات المجتمع المغربي نحو التقدم والعدالة الاجتماعية. صارت الأطروحات مفرغة من المعالجة الأكاديمية، وصار التأطير لا يقوى على مهام قيادة التطلعات في الانخراط في مجتمع المعرفة.
الخلاصة مما حدث بكلية الحقوق بسطات، أن المجتمع المحلي، هو الذي غدا يجر الجامعة ويؤثر فيها. وعلى الجميع إدراك هذه المخاطر والتصدي لها ومن المفيد أن لا نغمض العين على ما حدث، وأن تنكب الجامعة فورا في مناظرة لتطارح هذا الوضع وللعودة بالدرس العلمي والأكاديمي لأصوله وضوابطه التي صاغها تاريخ البحث العلمي.