سطات تُنذر بالخطر: انتحارات بالجملة ومجتمع يدفن الألم بالصمت

سطات تُنذر بالخطر: انتحارات بالجملة ومجتمع يدفن الألم بالصمت
سعيد حفيظي

 

في مشهد يعكس انهياراً صامتاً يعيشه عدد من مدن المغرب الداخلي، استيقظت مدينة سطات على وقع حادث مأساوي جديد، حين أقدمت شابة تبلغ من العمر 26 سنة على إلقاء نفسها من الطابق الثاني لمنزلها بحي العرفان، في ساعة متأخرة من ليلة الأحد. الشابة، التي نُقلت في حالة حرجة إلى المستشفى، لم تكن معروفة بسلوك مريب، بل وصفها الجيران بـ”الهادئة والمعتدلة”، ما جعل محاولتها المفاجئة تثير الذهول والحيرة وسط المحيطين بها.

لكن ما قد يبدو حادثاً معزولاً، ليس سوى جزء من مشهد أكثر قتامة. خلال خمسة أيام فقط، شهد إقليما سطات وبرشيد أربع حالات انتحار مأساوية أخرى، تمت جميعها بوسائل عنيفة: الشنق أو القفز من أماكن مرتفعة. الضحايا ينتمون لفئات عمرية مختلفة، بين عشريني يعاني البطالة، وأربعيني أنهكته المسؤوليات، ورجل ستيني أنهكته الحياة.

ورغم اختلاف التفاصيل، إلا أن القاسم المشترك بين كل هذه الحالات هو الإحساس باليأس، وانعدام الأفق، وغياب الدعم. صمت ثقيل يسبق الانفجار، وانهيارات نفسية لا تجد من ينتشل أصحابها قبل أن يسقطوا نهائياً.

المفارقة المؤلمة أن هذه الموجة من الانتحارات لم تواكبها أي ردود فعل حقيقية من الجهات المعنية. لا بلاغات رسمية، لا تحقيقات عميقة، ولا تحركات عاجلة. فقط صدمة محلية عابرة، تعقبها عودة إلى الروتين القاتل. والأسوأ أن الأرقام تُراكم دون مساءلة: من المسؤول عن كل هذه الأرواح التي اختارت المغادرة؟ ومن يدفع المواطنين دفعاً إلى حافة الهاوية؟

الوضع الصحي في المنطقة، خصوصاً على مستوى الصحة النفسية، يبعث على القلق. المستشفى الإقليمي ببرشيد يعاني من نقص حاد في الأطر والتجهيزات، أما الأدوية النفسية فهي إما منقطعة أو غير متوفرة بالمجان، ما يجعل المرضى الفقراء بلا خيارات. وفي مجتمع لا يزال ينظر للمرض النفسي كوصمة أو “جنون”، يصبح الصمت خياراً وحيداً، إلى أن تنفجر المعاناة في شكل مأساوي.

ورغم تحذيرات الأطباء وخبراء الصحة النفسية، لا يزال الخطاب الديني والتربوي عاجزاً عن لعب دوره الوقائي، حيث تسيطر على المشهد خطابات سطحية، تُحمّل الضحية مسؤولية انهياره، وتبرّئ المحيط والأنظمة التي خذلته. وهكذا، تستمر الحلقة المفرغة: معاناة، صمت، انفجار، نسيان.

من المؤلم أن يتحول تعليق ساخر لأحد أبناء المنطقة إلى تشخيص دقيق للأزمة، حين قال: “قالوا زمان: سطات كْتسطّى وبرشيد كْتداوي. اليوم حتى برشيد ما بقاتش تداوي”. عبارة تختصر واقعاً لم يعد يُحتمل، في مدن تُنتج العزلة، وتعيد تدوير الألم، وتمنح الانتحار صفة الحل الأخير.

ما تحتاجه سطات وبرشيد، وغيرهما من المدن المنسية، ليس فقط مراكز علاج نفسي أو نشرات توعية، بل سياسة عمومية جديدة تُعيد الاعتبار للكرامة النفسية والاقتصادية للمواطن. فحين يفقد الإنسان الشعور بالأمان والانتماء، يصبح الموت خياراً لا يبدو مرعباً كما يجب.

إن الانتحار لا يحدث فجأة، بل هو النتيجة الأخيرة لمسلسل طويل من الإهمال والتهميش والتراكمات النفسية. وحين يتحول إلى ظاهرة، فذلك يعني أننا نعيش أزمة مجتمعية عميقة تتطلب أكثر من مجرد الرثاء والتعاطف.

الآن، السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: كم شابة أخرى ستقف على الحافة؟ وكم صرخة ألم أخرى سنختار تجاهلها، قبل أن نفهم أن ما يُقتل في هؤلاء ليس فقط الأمل… بل الإنسان نفسه؟

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *