الدكتور عيدودي يكتب : اليهود المغاربة: ملامح الوضع الاجتماعي والديني وأبعاد التعايش المغربي الفريد

الدكتور عيدودي يكتب : اليهود المغاربة: ملامح الوضع الاجتماعي والديني وأبعاد التعايش المغربي الفريد
مجلة 24

يعد المغرب نموذج فريدًا في العالم لتجربة العيش المشترك بين الديانات، حيث شكّل اليهود المغاربة جزء أصيلا من النسيج الاجتماعي المغربي، عاشوا إلى جانب المسلمين، عرب وأمازيغ، في مدن البلاد وقراها، وساهموا في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، لم يكن وجودهم هامشي أو استثنائي، بل كان حضور متجدر في التاريخ المغربي، مؤطرًا برعاية ملوك المغرب وسلاطينه، وراسخًا في الذاكرة الوطنية.

*أولا: ملامح الوضع الاجتماعي لليهود بالمغرب*

تشهد المصادر التاريخية على اندماج اليهود في الحياة اليومية للمغاربة. فقد شغلوا مناصب مهمة في خدمة الدولة، وكانوا جزءًا من الأسواق والمهن، وشاركوا المسلمين في الفلاحة والتجارة والصناعة. وورد في كتاب “ألف سنة من حياة اليهود” أن الصناع والتجار اليهود ترددوا على الأسواق الإسلامية في فاس والصويرة، وامتلكوا الدكاكين داخل وخارج الملاح.
كما كان لهم حضور في البوادي، حيث امتلكوا أراضي فلاحية، يزرعونها ويعيشون من إنتاجها جنبًا إلى جنب مع المسلمين، في علاقة قائمة على المصالح المشتركة. ولم تُفرض عليهم قيود في التملك أو العمل.
التعايش كان يتجاوز الاقتصاد إلى تفاصيل الحياة اليومية: تقاسموا المياه، والأفراح، والمواسم، وحتى الأزمات مثل القحط والمجاعات. وصلت درجة التداخل الإنساني إلى أن يرضع أطفال الطائفتين من أمهات بعضهم البعض، في مشهد إنساني عميق الدلالة.

*ثانيا: الأبعاد الدينية والثقافية – الأعياد اليهودية المغربية*

إلى جانب انخراطهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، احتفظ اليهود المغاربة بتراث ديني غني، يتضمن أعيادا وطقوسا خاصة، بعضها مشترك مع يهود العالم، وبعضها يحمل بصمة مغربية خالصة نتيجة التفاعل مع المحيط الإسلامي والأمازيغي.

*الأعياد الدينية الكبرى*

1. عيد رأس السنة العبرية (روش هشناه) – بداية السنة في التقويم العبري، تتخلله الصدقات، وتناول أطعمة رمزية مثل الرمان والعسل، والنفخ في “الشوفار”.
2. عيد الغفران (كيبور) – يوم الصوم الأطول والأقدس، يرمز للتكفير عن الذنوب.
3. عيد المظلات أو العرش (سوكوت) – ذكرى إقامة بني إسرائيل في الخيام، تتخلله طقوس بناء المظلة وتقديم القرابين النباتية.
4. عيد الأنوار (حانوكاه) – إحياء لذكرى انتصار تاريخي، وإشعال شمعدان “الحانوكاه”.
5. عيد المساخر (بوريم) – عيد شعبي مرح بملابس تنكرية وأطعمة خاصة.
6. عيد الفصح (بيساح) – ذكرى الخروج من مصر، والامتناع عن الخبز المختمر.
7. عيد الشعلة (لاغ بعومر) – احتفال شعبي بالنار، ويعرف بعيد الزيجات.
8. عيد نزول التوراة أو الأسابيع (شفوعوت) – ذكرى نزول التوراة وبداية الحصاد.

*طقوس العبادات*

الصوم: ستة أيام سنويا، أبرزها يوم الغفران، وأيام مرتبطة بخراب الهيكل.
الصلاة: ثلاث صلوات يوميا، مع صلوات خاصة في الأعياد مثل “سليخوت” و”تاشليح”.

*التفاعل مع المحيط المغربي*

من أبرز الأمثلة على التلاقح الثقافي عيد الميمونة، الذي يأتي في ختام عيد الفصح، حيث يفتح اليهود بيوتهم للمسلمين ويتشاركون الأطعمة والحلويات، في طقس يجسد المساواة والتقارب. الميمونة مثال على كيف تحولت مناسبة دينية إلى مساحة لقاء اجتماعي وثقافي بين الطائفتين.

*ثالثا: التجربة المغربية في التعايش – قراءة مقارنة*

عبر التاريخ الإسلامي، عرفت مناطق متعددة نماذج للتعايش بين المسلمين واليهود، إلا أن التجربة المغربية تميزت بالاستمرارية مقارنة بتجارب أخرى.
*1-الأندلس*
في الأندلس، عاش اليهود عصرا ذهبيا من الازدهار الفكري والعلمي، وبرزت أسماء مثل موسى بن ميمون، لكن هذه التجربة انقطعت فجأة مع سقوط الأندلس ومحاكم التفتيش سنة 1492م، ما أدى إلى تهجير اليهود قسرا.
*2-المشرق العربي*
شهد المشرق العربي فترات تعايش في بغداد ودمشق والقاهرة، لكنها كانت هشة، تتأثر بالصراعات السياسية. ومع قيام دولة إسرائيل 1948، غادر معظم اليهود أو هجروا من هذه المناطق.
*3-المغرب*
بخلاف التجربتين السابقتين، استمرت التجربة المغربية قرابة ألفي سنة، بفضل:
الرعاية الملكية من طرف سلاطين المغرب، وخاصة العلويين، باعتبار الملك “أمير المؤمنين” لكل رعاياه.
المرونة الفقهية للمذهب المالكي في تنظيم العلاقة مع أهل الذمة.
التداخل الاجتماعي العميق الذي جعل من العزلة الدينية أمرا محدودا.
الاستقرار الجغرافي والسياسي مقارنة بالمشرق
*فرادة المغرب*
حتى بعد هجرة أعداد كبيرة من اليهود المغاربة في منتصف القرن العشرين، واصل المغرب حماية تراثهم ومعابدهم ومقابرهم، وأدرج تاريخهم في المناهج الدراسية، ليظل نموذجا عالميا في صون التعددية الدينية.

التجربة المغربية في التعايش بين المسلمين واليهود ليست مجرد إرث تاريخي، بل نموذج حضاري متجدد. فقد استطاع المغرب أن يحول التعددية إلى مصدر قوة ووحدة، ويجعل من التفاعل بين الأديان والثقافات أساسا لبناء مجتمع فسيفسائي متماسك، تحت شعار الله، الوطن، الملك، وبرعاية الملك محمد السادس نصره الله أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين.

بقلم الدكتور عيدودي عبدالنبي باحث في الشؤون الدينية و السياسية

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *