فضائل النقاش العمومي
مؤمن حد النخاع أن للنقاش العمومي فضائل لا تعد ولا تحصى، مهما احتدت وتضاربت فيه الآراء والمواقف والمواجهات الطبيعة بين أطراف المجتمع، من فاعلين سياسيين واقتصاديين واجتماعيين ومجتمع مدني حي، لم يعد يرضى لنفسه التواجد في دائرة التهميش والإقصاء بحكم نضج القناعات الحقوقية في ممارسة الحق في التعبير الحر والمسؤول والبناء.
وهذا الوضع نعتقد فيه، أنه صمام الأمان للمجتمع، لتذويب الخلافات والتشنجات بين هذه الأطراف أو تلك، والوصول إلى بناء توافقات تتطلع لتقدم الرؤى وتجويد مردودية النصوص والقوانين والتشريعات المؤطرة للعبة الاجتماعية وقواعدها.
فما يعتمل اليوم في قلب المجتمع من أحداث ومواقف سياسية، بين الفرقاء، نجد أن حكومتنا لم تعزز خيارات الانفتاح على النقابات، في الوقت الذي نجد فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية، شددت على دعوة الأجراء لمزيد من تنظيم أنفسهم داخل النقابة العمالية، لتيسير سبل التفاوض والتعاقد الاجتماعي للتغلب على الهزات الاقتصادية والاجتماعية.
إن هذه القناعة ورثها الرئيس بايدن، من لحظات السباق مع غريمه ترامب نحو البيت الأبيض، وتتبعنا كيف بلغ الصراع ذروته في زراعة التشكيك من طرف الاتجاه الشعبوي الذي بلغ منتهاه مع الدعوة لاستخدام العنف من طرف الرئيس المنتهية ولايته.
وكيف خرج رجالات السياسة الأمريكية والمنظرين لها ولمستقبلها، للدعوة لمزيد من النقاش والنقد الذاتي، لتجاوز المنعطف الذي أعلن فيه موت الفكر الشعبوي.
لم يجد العالم الأمريكي حرجا في النقاش الحر، وخرج منتصرا لهذه الديمقراطية الأمريكية. ووقف القضاء الأمريكي في صف نصرة أمريكا المتحولة، في عالم باتت فيه الانهيارات متوالية، لمفهوم سلطة اقتصاد السوق وهيمنة الرأسمال على القيم الإنسانية، التي علمتنا جائحة كوفيد أن اجتياح الوباء للقارات وعبوره السريع لمطارات الدنيا، والفتك المتزايد بأرواح الناس. أن مسافات التعايش الصحي يتساوى فيها الغني والفقير ولم تعد الحلول فقط في الحجر على حياة الناس، بل التفكير العميق في توزيع عادل لهذه الرفاهية التي كانت من نصيب قلة قليلة، على حساب جيوش الناس غير السعداء في بيوت لا يطاق فيها المبيت لانعدام الشروط السكن اللائق بها.
الجائحة أيقظت في البشر ضرورة المقاومة الجماعية من أجل استراد آدمية البشر وفطرته في العيش المشترك لجميع الناس.
من هذه المنطلقات، فتح عاهل البلاد مسارا ثوريا جديدا، لتمتيع المغاربة بالحماية الاجتماعية والتي وقع عليها الرهان الاستراتيجي لتقوية التماسك الاجتماعي وسد الخصاص والعجز لدى الفئات المحرومة من الأمان المستقبلي.
لكن في المقابل، لم نجد لدى حكومتنا هذا الحس الاستباقي، في احتضان الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين لمأسسة الحوار الاجتماعي واستئصال بؤر التوترات الاجتماعية، بما تقتضي الأوضاع من جرأة سياسية في التعاطي معها.
يسجل على حكومتنا أنها لا زلت تؤمن بمنطق (ولو طارت فإنها عنزة) هذا على الأقل ما يوحي به رئيسها وما توحي به أيضا بعض الخرجات غير الموفقة لأعضاء من حكومته باتت الأضواء مسلطة عليهم.
لقد وقع نقاش عن عزل أستاذ من سلك التعليم، واستند العزل إلى الفصلين 71 و 72 من قانون الوظيفة العمومية. ولو عدنا للفصل 71 في منطوقه وهي ليست لعبة عابرة.
نجد أن هذا الفصل يتحدث عن (لا يمكن في أية حالة من الأحوال أن تكون العقوبة الصادرة بالفعل أشد من العقوبة التي يقترحها المجلس التأديبي، اللهم إلا إذا وافق على ذلك رئيس الوزارة )
لكن في نازلة العزل التي لها تداعيات اليوم، نجد أن الرسالة التي توصل بها المعزول، تقر أن السيد رئيس الحكومة هو الذي اقترح وزكى العزل برسالة تحت عدد 0600 بتاريخ 30 / 03 / 2021
(بيان الوزارة يعتبر أن قرار العزل إداري وصرف تؤطره القوانين الجاري بها العمل، والتي تسري على جميع موظفي القطاع العمومي) انتهى بيان الوزارة.
العيب الكبير في قرار عزل الأستاذ متناقض ومنطوق الفصل 71. وهو باطل استعمل، دون وجه حق.
لذا أؤكد من جديد أن للنقاش العمومي فضائل لا تعد ولا تحصى، وفي جميع الدول، فإن الاعتراف بالخطأ فضيلة، تعجل بطي الملفات المفتعلة، والملفات التي تم الإعداد لها وفي ظروف خاصة، لم تقو فيها الأطراف الغالبة والمتحكمة في المعادلة على اتخاذ مسافة من الصراع وحسن الإصغاء والتأمل لما يجري ويدور. كما حدث للمدير الإقليمي لوزارة التعليم بسطات الذي صنع لغما ورحل إلى مراكش. صنعه بالانحياز وصاغ تقارير لم تحظ بالأسلوب الإداري الذي تتطلبه الرؤية الموضوعية في تدبير الشؤون الموارد البشرية.
إن الحقائق الاجتماعية حمالة للأوجه، وفيها يختلط الصالح بالطالح، وكم من قضية لو وجدت من يحسن تدبيرها واحتواءها، لما ضيعنا جهودا ما أحوجنا فيها لعمليات البناء المكلفة بهندستها وتخطيط عملياتها الاستراتيجية، أما الهدم لا تكفينا فيه سوى شحذ معاول رخيصة. المجتمع برمته هو الخاسر الأول والأخير فيها، وليس من جندوا لإشعال النار في الهشيم.