حسن نجمي أخطأ التفسير والتأويل
لا بد من قولها علانية وبالجهر، أن التحليل السياسي اليوم لدى بعض المعتقدين بانتمائهم لليسار، أفرغ من الرؤى المنهجية وأدوات التعاطي مع الظواهر الاجتماعية والسياسية، بخلاف ما كان عليه الأمر في السابق ، في زمن كانت فيه الأحزاب تحرص على تكوين مناضليها والعمل على ترقيتهم وإسناد المسؤوليات الحزبية لهم، وفق امتلاكهم للخبرات النضالية المطلوبة وتشبعهم بقيم الفكر اليساري وامتلاكهم لأدوات التحليل العلمي، حيث التعامل مع القضايا يستحضر عوامل تطورها التاريخي وينظر إليها في تحركها وتباثها وفي جدليتها لاستنباط الخلاصات.
ولم تكن دواوين المكاتب السياسية مفتوحة إلا للذين عاشوا المحن وخرجوا منها منتصرين لقضايا الناس والوطن، والذين ذاقوا مرارة السجون والمنافي أو على الأقل اعتنقوا عقائد تمجيد الإنسان وساهموا في الدفاع المبدئي والثابت عنها، وفي ظروف فتحت فيها أبواب جحيم القمع ولم يساموا ولو تشردوا.
وكانوا ينزاحون دون تردد وعلى حساب راحتهم وراحة أسرهم الصغيرة من أجل تعبئة الآخرين، وقيادتهم في الكفاحات الاجتماعية، وغالبا ما يستبدلون أفرشة بيوتهم الدافئة والمضيئة، بزنزانة أو معتقل رطب تسكنه رائحة العفونة.
اليوم يأتينا عضو من المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، الذي صرح زعيمه بالقول (نحن اليسار)، ليعلن عن استقالته من القيادة الوطنية لهذا الحزب العريق، في تاريخ شعبنا والذي عشنا أمجدا مع قادته التاريخين، وفي قوة دفاعهم عن قناعاتهم وأعطوا شهداء في الحركة الوطنية،. ليقول لنا أنه انسحب لأن الزعيم لم يستشره في قضية ترشيح فلان، عوض فلان وهو ابن القبيلة والمنتمي إليها والقاطن فيها بين أخوله وأبناء عمومته، وهو العارف والعالم بالقبيلة وشؤونها، بل زعيم آخر من حزب يساري آخر استشاره في رأيه وانطباعه عن شخص من القبيلة جاء طالبا في الترشح في حزب، كان تاريخه يفيد أنه حزب العمال والفلاحين الفقراء وطليعتهم في الكفاح الاجتماعي، ولم ينتبه ولم يحسن قراءة هذا الاعتراف لأنه لا يمتلك أدوات التحليل ولم يسبق له أن استخدمها في المعارك التي لم يشارك فيها وكسب منافعها.
اليوم اليسار التقليدي من التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي، صار يراهن على مرشحين ينحدرون من إقطاع البوادي والقبائل، وتغلق الأبواب في وجه المناضلين.
هذا التحول، باتت معه الأحزاب تراهن على من له الإمكانيات للحصول على المقعد الانتخابي، لأن الانتخابات لا تعرض فيها البرامج لإقناع المواطنين. والمواطنون أنفسهم، أخذهم العزوف من هذه اللعبة التي صارت تجارة واستثمارا. والفوز بالمقعد سيؤهل الزعيم في وقت لاحق للتفاوض على المنافع الحزبية بعدد الأصوات التي حصلها من الوافد صاحب الإمكانيات المالية والبشرية كما.
الوافدون الإقطاعيون لن ينسوا جذورهم الاجتماعية، والطبقية ولن تتم إذابتهم في التنظيمات الحزبية، ولن يتحولوا بين عيشة وضحاها إلى مناضلين ومدافعين عن إيديولوجيات يجهلونها ولم يتشبعوا بها، بل هاجسهم الأساس هو امتلاك سلطات وصفات التمثيلية للتواجد بقوة في مؤسسات يدركون جيدا، ما تمنحهم المؤسسات المنتخبة من إمكانيات لحماية مصالحهم بقوة.
إننا اليوم نعيش غشا أخلاقيا، راكمته الأحزاب اليسارية منذ أواسط سنوات التسعين ومع كل استحقاق وطني باتت الأنياب بارزة من أجل الرهان على عدد الأصوات، والرهان على الحقائب الحكومية والدواوين والمناصب العليا.
أما قضايا الشعب فقد استقر الرأي في الدفاع عنها، على النقابات العمالية والتنسيقيات التي فرخت بشكل ملحوظ للإعلان عن طبيعة المطالب الحقيقية التي تشغل الناس ومن أجلها يتظاهرون ويحتجون، ويواجهون بالصمت من هذه الأحزاب حين تتربع على إدارة الشأن العمومي.
الفكر البرجوازي الصغير الذي يمثله قادة بعض الأحزاب اليسارية، يعلن بكل وضوح ولم يعد يتستر على نواياه، أنه سيخوض غمار الاستحقاقات القادمة بالتحالف مع بقايا الإقطاع والقادمين من مناصب السلطات الإدارية والمحلية، ( ليضموا المفيد للطيف ) كما يفعل البرجوازيون الصغار في أسلوب حياتهم اليومية.