افتتاحية مجلة 24… الشباب والحاجة للتأطير السياسي
أنتمي إلي جيل كم كنا فيه محظوظين حيث عشنا زحما معرفيا قويا، ساهم فيه أساتذة سنوات السبعين، من حيث التوجيه إلى الارتباط بالثقافية الإنسانية والمرجعيات الفلسفية عند أقطاب الاشتراكية العلمية، وساهمت فيه أيضا البعثات الثقافية ودور الشباب والتنظيمات الشبابية، والأحزاب وجرائدها الوطنية التي كانت تحرص على إصدار الافتتاحيات اليومية لتأكيد مواقفها من مختلف القضايا المجتمعية.
كان الحزب اليساري الذي انتميت إليه، يوفر لنا الدروس النظرية والايديولوجية، ويساعدنا على امتلاك أدوات التحليل العلمي، وكانت هذه المدرسة يشرف عليها تنظيميا الرفيق الراحل شمعون ليفي، إلى جانب الحلقات الدراسية وإرسال البعثات إلى الدول لدى الأحزاب الصديقة لاستكمال التكوين السياسي في كبريات الجامعات.
لكن اليوم كل الأحزاب فرطت في ذلك وتخلت عن مسؤولية تأطير مناضليها، قبل أن تتخلى عن تأطير المواطنين، في الوقت الذي برز فيه حزب العدالة والتنمية، عبر قادته الخطباء يوفرون تكوينات دينية مغلفة بتفسيرات سياسية، يعيدون معها قراءة البداية الأولى لحقبة الرسول صلعم والذين تعاقبون بعده على تدبير شؤون الدولة الإسلامية الناشئة، وهي قراءات انتقائية وصفت بالغلو وإضفاء صفات ما فوق إنسانية، على الذين عاشوا تلك الظروف ويغمضون البصر والتفكير عما عرفته من اغتيالات سياسية لأغلب الخلفاء.
العدالة والتنمية وفر تكوينات لتجييش عواطف الناس وتعبئتهم لخوض مواجهات مجتمعية لتمكين الصقور القيادية من تبوء المناصب السياسية، والتي لم تكن لهم ما يكفي من التجربة السياسية للتعاطي مع الظروف والأحداث، لوضع البلاد على سكة النهوض الاقتصادي والتقدم الاجتماعي المطلوب، ودبوا على الأخضر واليابس كالجراد، وعمقوا الفوارق الطبقية وسعوا في تفقير الفقراء وإصلاح أحوالهم وأحوال مريديهم كما صرح جهرا بذلك السيد عبد الإله بن كيران.
الخاسر الأول اليوم هو شباب الأمة. قررت التفكير في الأشكال التي يمكن لي أن أساهم بها لتجاوز هذه المحنة، حين طلب مني بعض الأصدقاء أن أشاركهم درسا تكوينيا حول إدارة الأنظمة الحزبية وتدبيرها، ولم أتردد في الاستجابة لمطلبهم.
منهجيا، أنصت إليهم واحدا واحدا ، عن تصوراتهم للسياسة وعن أسباب اختيارهم هذا الحزب بالذات للانخراط فيه والدفاع عن برنامجه السياسي.ذهلت من الأجوبة التي تقاطعت كلها في رغبتهم للمساهمة في التغيير، تغيير هؤلاء الذين تعاقبوا على إدارة الشأن العمومي ولم يؤثروا في أوضاع محيطهم بقدر ما استفادوا على حساب الحاجيات الملحة للمدينة والمواطنين.
كان علي أن أستثمر كل أجوبتهم، أولا ليفكروا جميعا في أداة التغيير الديمقراطي، وهي الحزب وتقديم تعريف مبسط له، وهو تنظيم اجتماعي، قائم على مبادئ وأهداف مشتركة بهدف الوصول للسلطة وتدبير الشأن العمومي، ويفترض أن يضم مجموعة متجانسة في أفكارها، وفقا لبرنامج عام، لتحقيق أهدافه وتوسيع قاعدته الشعبية وطنيا وإقليميا ومحليا. ثم عرفت بطبيعة الأحزاب المغربية على اختلافاتها وما تمثله من مصالح طبقية من اليمن إلى اليسار.. وماهي المهام والأدوار التي يلعبها المناضلون في قلب المجتمع، وداخل حياة الناس للمساهمة في تأطيرهم ومرافقتهم للدفاع الدمقراطي عن حقوقهم، ومصالهم وأنواع الآليات الديمقراطية التي بها نترافع ونشكل الضغوطات المطلوبة على الأطراف الأخرى من المجتمع للتجاوب مع مطالب الناس.
كان السياق أيضا يفترض إثارة انتباه هؤلاء الشباب، إلى أن الممارسة السياسية تقتضي من المناضل القيادي الإلمام بالنصوص والتشريعات الوطنية وعلى رأسها الدستور لمعرفة وظائف الأحزاب ومسؤولياتها، ولا يمكن لنا أن نضمن الحقوق في غياب معرفة القوانين التي تصونها.
والانصات لنبض المجتمع يتأتى بالاتصال المباشر بالجماهير والاضطلاع على مختلف أخبار الجرائد وتجميع المعطيات وتحليلها داخل التنظيم الحزبي عبر النقاش الديمقراطي وصياغة القضية في برنامج للدخول لمرحلة التعبئة.
ويظل التنظيم السياسي مفتحا على أجناس من الناس، منهم المنخرط الذي يؤدي اشتراكه ويساهم بحضوره في الأنشطة والمناضل الذي يساهم في التعبئة لنجاح الأنشطة واللقاءات ويعمل على الترويج لأفكار ومبادئ الحزب، والإطار القيادي الذي يبدع الأفكار والصيغ النضالية التي تتطلبها الظروف المرحلية، وأنواع القضايا ويحسن إدارة الصراعات الداخلية وتبديد الخلافات بين الأعضاء لقيادة فريق عمل للتأثير في واقع الناس.
لكن في نهاية المطاف العمل السياسي يتطلب تطوير قدرات المناضلين بالمعرفة الواسعة لما يدور في عالم اليوم من مواقف وآراء في الفكر الفلسفي اليساري المعاصر، وعليه التسلح بآليات ومبادئ التحليل الاقتصادي وأن تكون له دراية بتقنيات التواصل وبعض المفاهيم من علم النفس وعلم الاجتماع لتساعده على حسن الإنصات للناس والتأثير فيهم لخدمة قضايا التغيير والمساهمة في إحداثه.