افتتاحية مجلة 24: الحاجة للتقنين
في عمليات البناء الديمقراطي والمؤسساتي، يكون مفهوم التقنين مفهوما وظيفيا لضبط توازنات التطور والارتقاء بالتراكمات لاستنتاج العوامل المفرملة وتجاوز ضغوطاتها، لتمكين المجتمع من عناصر النضج والولوج لمرحلة الحداثة التي تصير فيها القواعد هي الأساس لأنشطة الجماعات والأفراد، بما تمنحنا من إمكانيات للاحتكام لآلياتها. وكلمة التقنين أكثر ارتباطا بالثقافات القانونية، فالقول عن قنن يقنن تفيد وضع القوانين وتدوينها.
في الواقع لا يتعلق الأمر فقط بتقنين زراعة القنب الهندي، الذي خرج ضده تيار سياسي من العدالة والتنمية، يريد أن يقيم الدنيا حوله وأن لا يقعدها بزعامة الداعية الكبير عبد الإله بن كيران، الذي وإن ماتت الشعبوية مع ترامب، فهو لا زال يراهن عليها في مساره السياسي الخائب ولم يبتلع لسانه كما تقتضي الحنكة عند رجال السياسة.
الرجل يراهن على هذيانه الفكري، الذي يستند فيه على قراءات موغلة في الرجعية للنصوص الإلهية في التحليل والتحريم وثقافة القبور التي روج لها فكر الإخوان منذ مطلع القرن العشرين.
وبالعودة إلى التقنين فبلادنا وفي إطار تراكماتها التاريخية المعاصرة، فتحت أوراشا كبيرة في الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية. وكلما ظهرت في المجتمع قضية من القضايا، إلا ونلاحظ كيف أن أجهزة الدولة تسابق الزمن من أجل احتواء الوضع ومواجهته بالتقنين للأنشطة، كما حدث في معمل صناعة الألبسة الجاهزة بطنجة، فظروف العمل السري أدت إلى وفاة مجموعة من العمال في غياب توفر الوحدة الإنتاجية على معايير السلامة للعمال.
وبعد الحادث باشرت السلطات المختصة عملها من أجل تحرير هذا القطاع من هشاشته وسريته غير المنظمة، وخصصت له اعتمادات مالية كبيرة من أجل تنظيم وتقنين أنشطته كما يجري اليوم في مدينة الدار البيضاء وغيرها من مناطق البلاد.
لا ننسى أنه في وقت مضى كلما أثيرت قضية المعامل السرية، إلا وتم التغاضي عنها بدعوى أنها توفر فرصا قوية للعمل. لكن الرأي العلمي كان ينظر إلى أن هذه الوحدات، لن تجد مكانتها وتلعب أدورها في المسار التنموي للاقتصاد الوطني، إن لم تنتقل لمرحلة التنظيم والشفافية في تعاملاتها.
إن مسارات الإصلاح في بلادنا كان الهاجس من ورائها هو الانتقال بالمجتمع، للخضوع لضوابط العمل المشروع، وعمليات التنظيم تستهدف المواجهة والمجابهة المباشرة مع القطاعات غير المنظمة، والتي ظلت كمشة من أفراد المجتمع هي التي تستفيد من عائداتها، والتي كانت تشكل فيها المقاولات الصغيرة والمتوسطة القاعدة الكبرى لبنية الاقتصاد المغربي ما يناهز 95 بالمائة من النسيج الاقتصادي.
إن المقاولات المهيكلة في بلادنا، في الصناعة والتجارة والخدمات تعطينا خير مثال أنها تساهم بعائداتها الضريبية في تمويل المشاريع وعمليات البناء الجارية، وتحمي حقوق عمالها في الحدود الدنيا بتمتيعهم بالضمانات الاجتماعية المنصوص عليها في تشريعنا الوطني بخلاف المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي في أغلب الحالات تهدر هذه الحقوق والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
لذلك على غلاة الفكر الديني والتطرف إما المساهمة البناءة في هذا النقاش المجتمعي، لأنه نقاش في جوهره وغاياته مرتبط بخدمة المسار الديمقراطي لبلادنا بما في ذلك الدعوة اليوم لتقنين زراعة القنب الهندي.