أبعد من سؤال الإصلاح : أزمة النموذج الصحافي في المغرب و تحولات المعنى

أبعد من سؤال الإصلاح : أزمة النموذج الصحافي في المغرب و تحولات المعنى

بقلم: الدكتور طلوع عبدالإله – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

لم تعد الصحافة المغربية اليوم تعيش مجرد لحظة عابرة من الاختناق المهني أو ضيق المساحات، بل لحظة مركّبة تشبه ما يسميه علماء الاجتماع بـ”أزمة النموذج”؛ أي ذلك التوقيت الذي تصبح فيه الأدوات التقليدية عاجزة عن فهم الواقع، فضلاً عن التأثير فيه. فالنقاش الدائر حول “إصلاح الصحافة” يبدو، في تقديري، أضيق بكثير من حجم الأزمة، لأن الحديث عن الإصلاح يختزل المشكل في أعطاب تقنية يمكن ترميمها، بينما الواقع يكشف أننا أمام مأزق أعمق يتعلق بمعنى المهنة نفسها، ودورها، ووظيفتها داخل المجتمع.

إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد حاجة إلى إصلاح الصحافة، بل إلى إعادة طرح السؤال من جذوره: هل تمتلك الصحافة المغربية فعلاً القدرة والإرادة للقيام بدورها الديمقراطي الحقيقي؟ أم أن بنية السلطة، وآليات التضييق، وأنماط الرقابة ــ القانونية منها وغير المعلنة ــ تجعل أي محاولة للإصلاح مجرّد شعار جميل يخفي هشاشة البنية؟ فالسؤال لم يعد تقنياً ولا مهنياً، بل أصبح سؤالاً سياسياً بامتياز، مرتبطاً بطبيعة العلاقة بين الدولة والإعلام، وبين المجتمع والمعرفة، وبين الحرية والمسؤولية.

لقد تم اختزال أزمة الصحافة طويلاً في نقائص مهنية، أو ضعف التكوين، أو هشاشة المؤسسات الإعلامية، بينما الحقيقة أن الجوهر يكمن في أزمة ثقة، فالجمهور لم يعد يرى في الصحافة سلطة مضادة، ولا نافذة تكشف ما يُراد إخفاؤه، بل مجرد امتداد لصراع مصالح أو توازنات ظرفية. وهذا التحول ضرب العمود الفقري للعمل الصحافي، لأن المهنة التي تفقد ثقة المتلقي تشبه جسداً يتحرك بلا روح.

ثم إن الأزمة ليست خارجية فقط، بل داخلية أيضاً، فهناك خلل في تعريف الهوية المهنية للصحافي: هل هو ناقل للمعلومة؟ أم محلل؟ أم فاعل سياسي بواجهة إعلامية؟ أم مجرد موظف داخل مؤسسة لا تمتلك استقلالاً حقيقياً؟ هذا الاضطراب في تحديد الأدوار أنتج حالة من التوتر الدائم بين الصحافي ومحيطه، وبين الحقل الإعلامي ومنظومة السلطة، بل وحتى بين الصحافة والجمهور الذي أصبح أكثر تشككاً وأقل ثقة في ما يُنشر.

لهذا لم يعد السؤال اليوم: كيف نصلح؟
بل أصبح: ماذا نغير؟ وكيف نعيد تعريف وظيفة الصحافة؟ ومن يضع حدود عمل الصحافيين؟
وهي أسئلة تمس جوهر السلطة الرمزية، وتعيد التفكير في من يملك الحق في إنتاج الرواية، وفي ترسيم حدود المسموح والممنوع. فبين سلطة الدولة، وسلطة الرأسمال، وسلطة الضبط الاجتماعي، تظل الصحافة حلقة ضعيفة تُطلب منها المسؤولية دون أن تُمنح لها الحرية.

إن التحول الرقمي، وصعود الذكاء الاصطناعي، وتعدد مصادر الخبر، كلها عوامل جعلت الصحافة التقليدية في مواجهة وجودية. لم تعد الوسيلة وحدها تكفي، ولم يعد السبق الصحافي هدفاً، ولم تعد الحصرية قيمة.
ما أصبح مطلوباً هو المصداقية، والتحليل، والقدرة على تقديم معرفة لا توفرها خوارزميات مواقع التواصل. ومع ذلك، لا يمكن لمهنة أن تنهض في غياب ضمانات الحرية، وفي ظل استمرار الخلط بين النقد والتجريم، وبين الرأي والاتهام.

إن إصلاح الصحافة المغربية لن يكون ناجعاً ما لم تُعاد صياغة العقد الضمني بين الدولة والإعلام، وما لم يُمنح الصحافي حماية قانونية وأخلاقية ومؤسساتية، وما لم يُعد للجمهور حقه في إعلام مستقل، حر، مسؤول، وقادر على مساءلة السلطة لا الخضوع لها.

الإعلام ليس ترفاً، ولا مهنة للزينة، بل جزء من هندسة الديمقراطية. وكلما تم تقييد مجاله، ضاق أفق المجتمع. ولذلك فإن الأزمة التي يعيشها الإعلام اليوم ليست أزمة الصحافيين وحدهم، بل أزمة المجتمع برمّته، لأنها تمس الحق في المعرفة، وهو حق لا يُختزل في ورق ولا في شاشة؛ بل في القدرة على صناعة رأي عام واعٍ، يقظ، ومسؤول.

إن بناء صحافة قوية في المغرب ليس ترفاً فكرياً، بل شرطاً لبناء مستقبل يحترم الإنسان ويكرّس دولة القانون. ومن دون إعادة بناء هذا النموذج، سيظل الحديث عن “سؤال الإصلاح” مجرد عنوان جميل يزيّن واجهة أزمة أعمق بكثير مما نتصور.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *