“التوقيت الميسر” في الدكتوراه.. تكوين متفاوت وتقويض البحث العلمي

“التوقيت الميسر” في الدكتوراه.. تكوين متفاوت وتقويض البحث العلمي
عبد الحق غريب

أثار مشروع القانون رقم 59.24 المتعلق بتنظيم التعليم العالي والبحث العلمي جدلا واسعا داخل الأوساط الجامعية، خصوصا فيما يتعلق بالمقتضيات المرتبطة برسوم التسجيل وباعتماد نظام “التوقيت الميسر”.

بالنسبة لسلك الدكتوراه، تؤكد أصوات أكاديمية متعددة أن هذا التوجه يعكس فهما إداريا ضيقا لطبيعة التكوين في مرحلة إعداد الأطروحة، التي تُعد في جوهرها تجربة علمية متكاملة تتطلب تفرغا وانخراطا كاملا في البحث والمختبر، لا مجرد حضور متقطع أو جزئي.

ويزداد وضوح قصور هذا التوجه عند مقارنة الطالب المتفرغ، الذي يخصص كامل وقته للبحث وينخرط يوميا في المختبر، بالطالب الموظف الذي يقتصر حضوره على ما يسمح به “التوقيت الميسر”، ما يبرز الفجوة في فرص الانخراط والإنتاج العلمي بين المسارين.

إن اعتماد نظام “التوقيت الميسر” في إعداد أطروحة الدكتوراه لا يستقيم لا من الناحية الأكاديمية ولا من حيث منطق البحث العلمي.. فمرحلة الدكتوراه تتطلب انخراطا كاملا وجديا في العمل المخبري والبحثي، ولا يمكن اختزالها في حضور متقطع أو في ساعات محدودة خلال الأسبوع أو في صيغة عن بُعد.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه حين نتحدث عن التواجد بالمختبر، فإننا ندرك أن طبيعة الحضور تختلف باختلاف مجالات المعرفة. فالتخصصات العلمية والتقنية، مثل علوم الحياة والأرض والفيزياء وغيرها، تستوجب حضورا يوميا مكثفا لمتابعة التجارب وضبط المعطيات وتحليلها في حينها.

غير أن هذا لا يعني أن العلوم الإنسانية والاجتماعية وعلوم أخرى يمكن أن تنجز عن بُعد أو في أوقات متقطعة، إذ أن هذا النوع من التكوين يحتاج بدوره إلى حضور دائم في بيئة البحث، للتفاعل مع المؤطرين والباحثين، ومواكبة النقاشات الفكرية والمنهجية التي تشكل جوهر التكوين الأكاديمي الحقيقي.

في نهاية المطاف، المختبر هو الفضاء الطبيعي لتكوين الباحث، سواء أكان مختبرا علميا للتجارب أو فضاء فكريا للنقاش.. وكلما طال انغماس الطالب الباحث في هذا الفضاء، ازدادت خبرته ونضج مشروعه العلمي.

إن اعتماد نظام “التوقيت الميسر” في مسلك الدكتوراه ليس مجرد خطأ، بل قرار يهدد جوهر مجانية التعليم وحق الموظف في التكوين.. كما أن هذا النظام يؤثر بشكل كبير على جودة البحث العلمي، إذ يحد من الانخراط المستمر للطالب الموظف في المختبر والبحث، ويجعل من الصعب عليه إنتاج أطروحة بالمستوى العلمي المطلوب.

من أجل كل هذا، نؤكد أنه لا خلاص من هذا الوضع إلا بإعادة القانون 59.24 إلى طاولة الحوار.. وليتحمل الجميع مسؤولياتهم التاريخية في الدفاع عن الجامعة العمومية المجانية وعن تكوين أكاديمي متكامل وجودة البحث العلمي.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *