جرائم الأموال… ورهان الثقة المهددة

جرائم الأموال… ورهان الثقة المهددة
بقلم : سعيد حفيظي

رغم المجهودات الكبيرة التي تبذلها الدولة في محاربة الفساد المالي والحد من هدر المال العام، ما زال المغرب يعيش على وقع تراكمات مقلقة في ملفات الرشوة وسوء التدبير، وسط تأخر واضح في الحسم القضائي لعدد من القضايا المعروضة على أنظار الجهات المختصة، وهو ما يؤثر سلبًا على ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، ويُضعف الممارسة السياسية ويُربك مسار الإصلاح.

وأقدمت رئيسة المجلس الأعلى للحسابات، مؤخرًا، على إحالة دفعة جديدة من الملفات الثقيلة على رئاسة النيابة العامة، بعدما أثبتت تحريات دقيقة أن الأمر يتعلق بجرائم مالية تكتسي طابعًا جنائيًا. وتواصل المحاكم المالية دورها في تحليل التقارير التي تتضمن مؤشرات على مخالفات مالية وإدارية تستوجب المتابعة، في خطوة تُعيد ملف محاربة الفساد إلى واجهة النقاش العمومي.

لكن المفارقة الصادمة أن عددًا من المنتخبين والمسؤولين المتورطين في اختلالات مالية وإدارية يواصلون تحمل المسؤولية لسنوات طويلة، بل يحصل بعضهم على تزكيات حزبية جديدة ويعودون للترشح من جديد، في وقت لم تُحسم فيه ملفاتهم بعد، ما يطرح أسئلة محرجة حول فعالية مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي نص عليه دستور المملكة بوضوح.

تأخر الحسم في هذه الملفات لا يقتصر أثره على مستوى العدالة، بل يمتد ليقوض ثقة الشباب في جدوى الانخراط في الشأن العام والمشاركة السياسية، ويُضعف الإيمان بالقدرة على التغيير عبر المؤسسات. كما أن تراكم الفساد يكلف الدولة خسائر مالية ضخمة سنويًا، ويُعرقل الاستثمار، ويُنتج بيئة من الزبونية والمحسوبية تضرب في العمق قيم العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.

إن مكافحة الفساد ليست مجرد شعار يُرفع في المناسبات، بل مسؤولية مؤسساتية وأخلاقية مشتركة، تقتضي الاستمرارية في المراقبة والصرامة في المتابعة القضائية والإدارية. ومن أجل تصفية الملفات العالقة ومواكبة مسار الإصلاح، يتعين الكشف عن مآلات جميع تقارير التفتيش والمحاسبة دون انتقائية، وتسريع المساطر القضائية في قضايا جرائم الأموال، ومنع المدانين من العودة إلى مناصب المسؤولية أو الترشح من جديد، وربط التقارير الرقابية بآليات مساءلة حقيقية لا شكلية.

إن أي تراخٍ في مواجهة هذا الورم الإداري ستكون له كلفة باهظة، ليس فقط على المال العام، بل على مسار الثقة والإصلاح، لأن الفساد حين يتغلغل في مفاصل الدولة والمجتمع، يصبح عقيدة تُمارَس لا جريمة تُدان، ويغدو الإصلاح مجرد خطاب يواجه جدار المصالح الضيقة والنفوذ.

في النهاية، يظل الفساد المالي أخطر فيروس يهدد الجسم الوطني؛ فهو الذي يُهدر المليارات سنويًا، ويغتال الأمل، وينشر البطالة والاحتقان الاجتماعي، ويزرع الحقد الطبقي بين فئات المجتمع. لذلك فإن محاربته ليست ترفًا سياسيا، بل واجب وطني وأخلاقي وديني، يتطلب تعبئة جماعية صادقة، ومراقبة حقيقية للضمير، واستحضارًا دائمًا لتوجيهات الملك التي تجعل من تخليق الحياة العامة إحدى ركائز الدولة الحديثة والعادلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *