التمييز بين الرياضة القاعدية ورياضة النخبة في المغرب: أزمة مفاهيم وخلل في الرؤية السياسية للتنمية الرياضية

الدكتور : المصطفى الهيبة
تعتبر الرياضة أحد المداخل الأساسية للتنمية البشرية والاجتماعية، وفضاءً لبناء القيم وترسيخ روح المواطنة، غير أن المقاربة التي تدار بها الرياضة في المغرب تكشف عن اختلال في الفهم والتدبير السياسي لهذا القطاع.
فالمشكل لا يكمن فقط في ضعف الإمكانيات أو في غياب التنسيق المؤسسي، بل في غياب وعي سياسي ومفاهيمي واضح بالتمييز بين الرياضة القاعدية ورياضة النخبة، وهو ما جعل الخطاب العمومي المغربي يتخبط بين الشعارات الكبرى والرؤى غير المترجمة ميدانيا.
*أولا: ازدواجية الخطاب وضعف الوعي بالمفاهيم:
يتسم الخطاب الرسمي حول الرياضة في المغرب بقدر كبير من الازدواجية والغموض.
ففي أغلب الخطب، والتصريحات الوزارية، والبرامج الحكومية، يتم الحديث عن تطوير الرياضة الوطنية أو تحقيق إشعاع المغرب رياضياً، دون تحديد ما إذا كان المقصود هو بناء قاعدة جماهيرية للممارسة الرياضية أم تحقيق إنجازات على مستوى النخبة.
هذا الغموض المفاهيمي لا يمكن اعتباره مجرد تداخل لغوي، بل هو تعبير عن غياب رؤية سياسية واضحة للوظيفة المجتمعية للرياضة.
فحين يغيب التمييز بين الرياضة كحق اجتماعي من جهة، والرياضة كأداة للتمثيل الدولي من جهة أخرى، تختل الأولويات وتوجه الموارد بشكل غير متوازن.
في السياق المغربي، يبدو أن الخطاب الرسمي يميل إلى تقديس النخبة الرياضية، واعتبار إنجازاتها دليلا على نجاح السياسات العمومية.
غير أن هذا المنظور يغفل أن الرياضة القاعدية هي التي تشكل البنية التحتية الحقيقية لأي نظام رياضي ناجح.
ومن ثم، فإن تكرار المفاهيم الفضفاضة في الخطاب العمومي مثل تشجيع الشباب على الممارسة أو تطوير المنتوج الرياضي الوطني دون تحديد آليات التنفيذ أو التمييز بين المستويات يفرغ الخطاب من محتواه العملي ويحوله إلى مجرد أداة لتلميع الصورة السياسية.
*ثانيا: المقاربة السياسية وأثرها في توجيه الموارد:
إن تركيز الخطاب السياسي على الرياضة النخبوية يرتبط بنزعة رمزية تسعى إلى استخدام الرياضة كأداة للدبلوماسية الناعمة.
فكل إنجاز رياضي يقدّم في الإعلام على أنه نجاح للدولة، وكل لقب أو ميدالية يصبح وسيلة لتلميع صورة المغرب في الخارج.
لكن هذا التوظيف السياسي المفرط للرياضة جعلها تتحول من وسيلة للتنمية الاجتماعية إلى أداة للشرعية السياسية والتعبئة الرمزية.
وهنا يكمن الخطر:
فحين تصبح الرياضة رهينة حسابات الصورة والإنجازات الفردية، تهمش القاعدة التي من المفترض أن تضمن استدامة هذه الإنجازات.
يلاحظ مثلا أن أغلب الاستثمارات العمومية توجه نحو تجهيزات ضخمة (ملاعب، مركبات أولمبية، بنى تحتية للنخبة)، في حين تبقى الملاعب المحلية وفضاءات القرب محدودة التجهيز أو مغلقة أمام العموم.
وهذا يعكس غياب تصور سياسي شمولي يعتبر الرياضة جزءا من السياسات الاجتماعية، لا مجرد وسيلة لإنتاج الأبطال.
فالرهان الحقيقي ليس في عدد الميداليات، بل في عدد المواطنين الذين يمارسون الرياضة بشكل منتظم ويستفيدون منها كحق يومي.
*ثالثا: نتائج الخلل المفاهيمي على التنمية الرياضية:
إن هذا الخلل في المفاهيم انعكس سلبا على جميع مستويات التنمية الرياضية بالمغرب.
فضعف الرياضة القاعدية أدى إلى تقلص قاعدة الممارسين، وغياب تكوين حقيقي للمواهب في مراحل الطفولة والشباب.
وفي المقابل، أصبحت رياضة النخبة تعاني من نقص في الاستمرارية، لأن النظام الذي يغذيها من القاعدة غير فعال.
النتيجة أن المغرب يحقق أحياناً إنجازات فردية لامعة، لكنها تبقى ظرفية وغير مؤسسة على قاعدة هيكلية متينة.
ومن الناحية الاجتماعية، ساهم هذا الخلل في تكريس نخبوية ممارسة الرياضة، بحيث أصبحت بعض الأنواع الرياضية حكرا على فئات اجتماعية محدودة، في حين يحرم أغلب الشباب من ولوج البنيات الرياضية لاعتبارات مادية أو مجالية.
*رابعا: نحو إعادة بناء الخطاب والسياسة الرياضية:
من منظور تحليلي، فإن أي إصلاح حقيقي للرياضة في المغرب يبدأ أولا من إعادة بناء الخطاب السياسي ذاته.
يجب أن يتأسس هذا الخطاب على وعي بأن الرياضة القاعدية هي استثمار في رأس المال البشري، وأن نجاح رياضة النخبة لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود قاعدة قوية وشاملة.
ينبغي على مراكز القرار السياسي أن تتجاوز النظرة التبجيلية للنتائج السريعة، وتنتقل إلى مقاربة تنموية قائمة على الممارسة الشاملة، عبر سياسات تدمج الرياضة في المدرسة والجامعة والجماعات الترابية.
كما أن الخطاب العمومي يجب أن يعاد صياغته بلغة دقيقة، تميز بين مستويات الممارسة، وتربط كل مستوى بغاياته الخاصة:
-الرياضة القاعدية كحق وممارسة جماهيرية.
-الرياضة المدرسية كفضاء للتنشئة.
-الرياضة النخبوية كرافعة للإشعاع الدولي.
فإعادة التوازن بين هذه المستويات ليست قضية تقنية، بل قرار سياسي بامتياز، يتطلب إرادة في تحويل الرياضة من منطق الاستعراض إلى منطق التنمية.
**إن الخلط بين الرياضة القاعدية ورياضة النخبة في الخطاب والسياسات العمومية بالمغرب ليس مسألة لغوية أو إدارية فحسب، بل هو انعكاس لأزمة في الفهم السياسي لدور الرياضة داخل المجتمع.
فالاهتمام المفرط بالنخبة يقود إلى رياضة بلا قاعدة، والإنجازات المؤقتة لا تصنع تنمية مستدامة.
وحين يعي صانع القرار أن الرياضة ليست مجرد وسيلة لتلميع الصورة، بل أداة استراتيجية لإنتاج الإنسان المغربي المتوازن، يمكن حينها الحديث عن إصلاح حقيقي لهذا القطاع الحيوي.
***المراجع:
*وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، الاستراتيجية الوطنية لتطوير الرياضة في أفق 2030/ 2022.
*المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تقرير حول واقع الرياضة بالمغرب وآفاق تطويرها 2018.
*المندوبية السامية للتخطيط، مذكرة حول الممارسة الرياضية بالمغرب 2021.
*عبدالرحمان برادة: السياسات العمومية والرياضة في المغرب، قراءة في النموذج التنموي الجديد، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد 12/ 2023.
*تقرير اليونسكو حول الرياضة و التنمية 2019