الملكية الدستورية ومسار العدالة المجالية: قراءة سياسية في خطاب افتتاح البرلمان لسنة 2025”

الملكية الدستورية ومسار العدالة المجالية: قراءة سياسية في خطاب افتتاح البرلمان لسنة 2025”
بقلم: طلوع عبدالإله – دكتور في القانون العام والعلوم السياسية، وفاعل سياسي مهتم بقضايا الشباب

شدّد صاحب الجلالة الملك محمد السادس، في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأخيرة من الولاية الحالية، على جوهرٍ سياسي ودستوري بالغ الأهمية، يتمثل في الاستمرارية المؤسساتية والفعالية البرلمانية في خدمة المصلحة العامة، بعيدًا عن الحسابات الانتخابية الضيقة التي غالبًا ما تطبع السنوات الأخيرة من الولايات التشريعية.

وقد نوّه الملك في مستهل خطابه، بالعمل الذي يقوم به البرلمان في مجالي التشريع والمراقبة والتقييم، غير أن الإشادة هنا لم تكن مجاملةً بروتوكولية بقدر ما كانت تأطيرًا وظيفيًا لدور المؤسسة التشريعية في السياق الراهن، بما يحمله من رهانات تتعلق بتكامل السلط وتوازنها.
فالخطاب، من منظور علم السياسة، أعاد ضبط العلاقة بين السلط الدستورية الثلاث، مؤكدًا أن الملكية في المغرب، بحكم موقعها التحكيمي، تظل ضامنةً لحسن سير المؤسسات وفق روح الدستور وليس فقط بنصوصه.

كما تحدث الملك بصراحة سياسية عن ضرورة التحلي باليقظة والمسؤولية خلال السنة الأخيرة من الولاية، وهي إشارة قوية إلى رفض منطق “الجمود التشريعي” الذي يميز عادةً نهاية الدورات البرلمانية، حيث تنشغل الأحزاب بالحسابات الانتخابية بدل استكمال الإصلاحات المهيكلة.
وفي ذلك تنبيهٌ ذكي إلى خطورة تحوّل الزمن الانتخابي إلى زمنٍ للتعطيل السياسي.

ومن الزاوية التنموية، صرّح الملك بأن العدالة الاجتماعية والمجالية ليست شعارًا ظرفيًا، بل “توجهاً استراتيجياً ورهاناً مصيرياً”.
وهذا التأكيد يعكس انتقال الخطاب الملكي من منطق الشرعية التنموية إلى منطق العدالة الترابية بوصفها ركيزة للديمقراطية المحلية وللنموذج التنموي الجديد.
ففي علم السياسة، هذا التحول يعني أن الدولة أصبحت تنظر إلى التنمية ليس فقط كأداة اقتصادية، بل كوسيلة لإعادة توزيع السلطة والثروة بين الجهات.

أما على مستوى الخطاب الدبلوماسي الداخلي، فقد نوّه الملك بـ“الدبلوماسية الحزبية والبرلمانية”، داعيًا إلى جعلها مكملةً للدبلوماسية الرسمية في الدفاع عن القضايا الوطنية، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية، هذا التنويه لم يكن عابرًا، إذ يُعبّر عن وعي ملكي بأهمية الرافعة الحزبية والتمثيلية في معارك الترافع الدولي، بما يتجاوز البعد الرسمي نحو إشراك فاعلين متعدّدين في الدفاع عن المصالح العليا للوطن.

كما تحدّث الملك بإسهاب عن الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية، داعيًا إلى تغيير “العقليات وطرق العمل” وتبني “ثقافة النتائج”.
وهذه المفردات تعبّر عن تحول في النسق الإداري والسياسي المغربي نحو نموذج تدبيري حديث قائم على النجاعة والمسؤولية والمحاسبة، وهي مفاهيم تشكّل أساس الحكامة الجديدة التي يربطها الملك دائمًا بـ“التحول الثقافي في ممارسة السلطة العمومية”.

ولعل أهم ما شدد عليه الخطاب هو البعد الترابي في العدالة الاجتماعية، حيث دعا الملك إلى إيلاء أهمية خاصة للمناطق الجبلية والواحات، وتفعيل القانون والمخطط الوطني للساحل، وتوسيع المراكز القروية. في لغة السياسة، هذا ليس مجرد برنامج تنموي، بل هو تصور لإعادة هندسة الخريطة المجالية للسلطة والتنمية في المغرب، من خلال دمقرطة الفضاء الترابي وتمكين الهامش من فرص النمو الذاتي.

وفي ختام الخطاب، دعا الملك كافة الفاعلين، حكومةً وبرلمانًا، أغلبيةً ومعارضةً، إلى تغليب المصلحة الوطنية العليا، مؤكدًا أن المرحلة المقبلة تتطلب تعبئة جماعية ومسؤولية أخلاقية وسياسية في ممارسة السلطة، وهنا يتبدى البعد القيمي في القيادة السياسية للملكية المغربية، التي تُوازن بين الواقعية السياسية والأخلاق العمومية.

وكخلاصة: إن خطاب افتتاح البرلمان لسنة 2025 لم يكن خطابًا عابرًا لتدشين دورة تشريعية جديدة، بل كان بيانًا استراتيجيًا للانتقال من منطق التنمية الموجّهة من المركز، إلى منطق العدالة الترابية المتعددة الأقطاب.
لقد وضع الخطاب الملكي خريطة طريقٍ للجيل القادم من السياسات العمومية، مؤكدًا أن المغرب الصاعد هو مشروع جماعي يتطلب تضافر الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين، بروح المواطنة والتعبئة والفعالية.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *