أبعدنا التمدن…كبارنا يواجهون صمت الأحياء و بُعد الذاكرة

لقد بات الأفقُ المغربيّ يشهد ظاهرةً لا تُرى غالبًا إلا في نوبات الحنين و كلماتِ اللقاءات العابرة، لكنها حقيقية، يومية، لا يستهان بها : كبار السن يرزحون تحت وطأة العزلة، ليس نتيجة المرض أو التقدم بالعمر فقط، بل لأن الهجرة الداخلية و التحضر أخذا يقتطعان من عمق المجتمع و شبكة العلاقات التي تربط الأجيال بعضها ببعض.
عندما تُهاجرُ الأجيالُ الشابة إلى المدن الكبرى طلبًا للتعليم أو العمل؛ يُترك الأجداد وراءهم في القرى التي كانت سنوات مضت مركزًا للحياة الإجتماعية و العائلية، تُترك منازلٌ فارغة، ساحاتُ لعبٍ صُمّت، و طرقٌ لا تصل إليها زيارات منتظمة. التمدّن لا يُقصي كبار السن مُباشرةً، لكنه يُغيِّبهم عبر الفجوات التي تُخلّفها الهجرة : من الفرق في الإيقاعات اليومية، إلى غياب الدعم المجتمعي، و نقص التواصل.
في المدن، حيث تتراكم المنازل الشاهقة و شبكة الطرق تبتعد عن الزوايا التي تعيش فيها الذكريات، يعيش الكثير من المسنين حالةً من التشرد العاطفي : أولادٌ يعيشون معهم جُغرافيًا، لكن مشغولون بشؤونِ شوارعٍ و أعمالٍ و تكنولوجيا تغيبُ فيها المحادثات الحميمية؛ جاراتٌ أو جيران لا يعرفون تُحيّاتهم الصباحية؛ و حيٌّ عامٌ لا يعترف إلا بالصخب و السرعة.
و لا يحتاج الأمر إلى أن يسافر أحد إلى الغربة ليُبعده الزمن أو يُبعده الإنشغال؛ فهنا، في الرباط أو مراكش، في فاس أو طنجة، يكفي أن يكون بيتٌ بعيدًا عن مركز المدينة، أن تكون الهواتف هي الوسيلة الأكثر إستخدامًا، أن تُغيِّر وسائل النقل مساراتها، أن يتغير نمط الزيارات العائلية…ليُغدو المسن ما بين الإنتظار و الرسائل النصية، بين الذكرى الدقيقة و العزلة الخاطفة.
العزلة لا تقتصر على الوحدة الجسدية فحسب، بل تُرافقها شعورٌ بأن الحياة تغيّرت من دون إستئذان، بأن الإهتمام أصبح ترفًا، و أن الكرامة تُقاس بعدد الزيارات لا بعمقها. المشاعر المختلطة : الحزن، القلق، التهميش، و غالبًا الشعور بأن من عاشَ أزمان الجماعة لا يتعرف إلى واقع اليوم.
ما يُنقذ هؤلاء المُسنّين ليس فقط وعيًا من المجتمع أو مؤسسات الرعاية، بل سياساتٌ تضعهم في قلب مدننا الجديدة، في بيوتنا، في شوارعنا، بخدمات تضمن لهم التواصل، النقل، المراقبة الصحية، النشاط الإجتماعي، و بُعدًا عن الشعور بأنهم أصحاب بُعدٍ في الزمن. لأن التمدن و الهجرة الداخلية قد يباعدان الجسد عن المكان، لكنّ روحَا الأجيال لا يجب أن تُتركُ وحيدة.