الأستاذ سعيد حفيظي يكتب: هيبة القانون أولا مواجهة التخريب والعنف بحزم لا مساومة فيه

إن ما شهده المغرب في الأيام الأخيرة من أعمال عنف وتخريب وإضرام للنار في الممتلكات العامة والخاصة، يعكس تحوّل الاحتجاجات من تعبير سلمي عن المطالب إلى حالة تهدد السلم الاجتماعي وتمس السلامة الداخلية للدولة. ومن منظور قانوني، فإن هذه الأفعال تندرج ضمن الجنايات الكبرى التي تبرر تدخل الدولة بكل أجهزتها، حفاظًا على النظام العام بمكوناته الثلاثة: الأمن، السكينة، والصحة العامة.
الدولة المغربية ليست في موقع العاجز عن مواجهة مثل هذه التحديات، إذ أن المنظومة القانونية تمنحها صلاحيات واسعة للتدخل. فالولاة والعمال باعتبارهم ممثلي السلطة المركزية، يمارسون الشرطة الإدارية العامة طبقًا للمادة 110 من القانون التنظيمي للجماعات، وهو ما يخول لهم صلاحية حفظ النظام في مواجهة التظاهرات العنيفة. أما قانون المسطرة الجنائية، في مادته 28، فيجيز لهم التدخل المباشر في حالة الاستعجال القصوى، عند وقوع جرائم تمس أمن الدولة الداخلي أو الخارجي، عبر اتخاذ كل التدابير الضرورية لحماية المواطنين. وإلى جانب ذلك، فإن الظهير الشريف لسنة 1977 يمنحهم حق تعبئة القوات المساعدة وقوات الشرطة والدرك الملكي، بل وحتى القوات المسلحة الملكية عند الاقتضاء. هذا الإطار التشريعي يبين أن الدولة وضعت منذ عقود تصورًا متكاملاً لتدرج أدوات التدخل، بدءًا من الإجراءات الإدارية وصولًا إلى التعبئة العسكرية إذا لزم الأمر.
لكن السؤال الأعمق يظل: هل المقاربة الأمنية وحدها تكفي لإخماد الفوضى ومنع تكرارها؟ هنا يصبح من المفيد استحضار التجارب الدولية. ففي فرنسا مثلًا، عرفت البلاد موجات متكررة من العنف الحضري، خاصة في الضواحي الباريسية، حيث قادت المواجهات مع الشرطة إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة. الدولة الفرنسية اعتمدت آنذاك على نشر قوات الأمن والدرك، وفرض حالة الطوارئ في بعض الفترات، لكن التجربة أثبتت أن التدخل الأمني وحده لم يكن كافيًا، إذ عادت نفس الأزمات لتتكرر بفعل غياب حلول اجتماعية واقتصادية تعالج جذور التهميش.
وفي الولايات المتحدة، حيث تتكرر أعمال الشغب المرتبطة بالتوترات العرقية أو الاجتماعية، اعتمدت السلطات على التعبئة العسكرية عبر الحرس الوطني كملاذ أخير لضبط الفوضى. غير أن العديد من الدراسات الأميركية تؤكد أن المقاربة الأمنية الثقيلة تزيد أحيانًا من فقدان الثقة بين المواطنين والسلطات، مما يفاقم الاحتقان بدل احتوائه، وهو ما دفع بعض الولايات إلى موازنة تدخلاتها الأمنية ببرامج إدماج اجتماعي وتنمية محلية.
أما في إسبانيا، فقد واجهت احتجاجات عنيفة في كاتالونيا عقب الاستفتاء غير الدستوري لسنة 2017. هناك، اختارت الدولة الجمع بين حزم قانوني وأمني تمثل في متابعة قضائية للمسؤولين عن التحريض، وبين مقاربة سياسية تقوم على الحوار المؤسساتي لإعادة ضبط العلاقة مع الأقاليم. هذه التجربة أبرزت أن التوازن بين الردع الأمني وفتح قنوات سياسية واجتماعية يقلص من احتمالات عودة الفوضى.
من خلال هذه المقارنات، يتضح أن المغرب ليس استثناء، وأن التحدي المطروح أمامه لا يختلف كثيرًا عن تجارب دول عريقة في الديمقراطية. فالمقاربة الأمنية الصارمة ضرورية لحماية أرواح الناس وضمان هيبة الدولة، لكن نجاحها الحقيقي مرهون بمدى قدرة المؤسسات على معالجة جذور الأزمة. البطالة، التفاوت الاجتماعي، ضعف العدالة المجالية، وتراجع الثقة في الوسائط التقليدية للتمثيل السياسي، كلها عوامل تشكل أرضية خصبة للعنف إذا لم تتم معالجتها بشكل متوازٍ مع التدخل الأمني.
اليوم، المغرب أمام مفترق طرق: فإما أن يكرس قوة الدولة من خلال صرامة القانون وحزم التدخل الأمني، مقترنة بإصلاحات اجتماعية واقتصادية تفتح أمام الشباب أفقًا جديدًا، وإما أن يظل أسير دورة من الاحتجاجات والانفلاتات التي تضعف السلم الاجتماعي وتستنزف طاقات البلاد. إن الرهان الحقيقي لا يكمن في استعمال القوة فحسب، بل في جعل هذه القوة مشروعة وعادلة وملتصقة بعمق بمفهوم الدولة الحامية لحقوق مواطنيها.
إن الدرس المستفاد من التجارب الدولية هو أن الأمن وحده لا يكفي، كما أن التنمية وحدها لا تكفي. المطلوب هو توازن دقيق يجعل من الدولة حارسًا قويًا للنظام العام، وفي نفس الوقت راعيًا حقيقيًا للعدالة الاجتماعية. بهذا فقط يمكن أن يتحقق الأمن المستدام، وتُصان هيبة الدولة، ويُحصن المجتمع ضد كل محاولات الانزلاق نحو الفوضى والعنف.
إن المرحلة الراهنة لا تحتمل أي تهاون أو تساهل مع كل من يختار طريق الفوضى والتخريب، فالأمن ليس ترفًا، والنظام العام ليس خيارًا، بل هو شرط وجود الدولة واستقرار المجتمع. ومن هذا المنطلق، يصبح الضرب بيد من حديد على كل من سوّلت له نفسه العبث بأمن البلاد وممتلكات العباد واجبًا وطنيًا لا يقبل المساومة. غير أن هذا الحزم لا يعني الانزلاق إلى منطق الانتقام أو العنف غير المشروع، بل يعني تفعيل نصوص القانون بكل صرامة، وتطبيق العقوبات الرادعة التي يقرها المشرع، بما يصل إلى أقصى العقوبات في الجرائم الماسة بالسلامة الداخلية للدولة.
بهذا التوجه، تحافظ الدولة على هيبتها، ويحس المواطن أن القانون هو الحامي لحقوقه، وأن الأمن ليس مجرد حضور لقوات في الشوارع، بل منظومة متكاملة تصون الأرواح وتحمي الممتلكات وتردع كل من يحاول تهديد السلم الاجتماعي. إن الضرب بيد من حديد، حين يكون منضبطًا بالقانون، هو رسالة واضحة: الفوضى لن تنتصر على النظام، والعنف لن يقهر دولة مؤسسات، والتخريب لن يجد سوى مصير العدل الصارم والمحاكمة الرادعة