ذاكرة الجينات.. كيف يبقى أثر المجاعة في الجسد والدماغ أجيالا؟

يمر قطاع غزة حاليًا بمجاعة ساحقة توصف بأنها “الأسوأ” عالميًا، لكنها لا تتوقف عند هذا الحد، بل تتفاقم يومًا بعد يوم، في ظل ظروف إنسانية كارثية وأزمة غذاء غير مسبوقة. غير أن الكارثة الحقيقية، كما تؤكد الدراسات العلمية، لا تقتصر على الوقت الراهن، بل تمتد آثارها لعقود مقبلة، بل ولأجيال لم تولد بعد.
دروس من “شتاء الجوع”
تستدعي هذه الأزمة مقارنة علمية بدراسة شهيرة عن “شتاء الجوع الهولندي”، وهي فترة خلال الحرب العالمية الثانية شهدت مجاعة حادة في هولندا. أظهرت الدراسات أن الأطفال الذين تكوّنوا في أرحام أمهاتهم خلال هذه المجاعة، عانوا لاحقًا من مشاكل صحية مزمنة، مثل أمراض القلب والسكري والاكتئاب، ما يؤكد أن المجاعة تترك “ندوبًا جينية” تنتقل عبر الأجيال.
الذاكرة الجينية.. كيف يتذكر الجسد المجاعة؟
تشير الأبحاث إلى أن التغيرات الجينية التي تحدث للأم أثناء المجاعة تنتقل إلى الجنين، في ظاهرة تُعرف بـ”الذاكرة الجينية”. هذه الذاكرة لا تعني تذكُّر أحداث معينة، بل تشير إلى تعديلات بيولوجية في الحمض النووي تؤثر على كيفية عمل الجينات، دون أن تغير تسلسلها.
وتُعرف هذه الظاهرة بـ”علم التخلّق”، الذي يدرس كيف تؤثر العوامل البيئية مثل الجوع، على التعبير الجيني للجينات، أي طريقة تشغيلها أو إيقافها، وهو ما ينعكس لاحقًا على الصحة الجسدية والنفسية.
تأثيرات لا تُمحى
عند التعرض للمجاعة، يتفاعل الجسم عبر تغييرات في أنظمة التمثيل الغذائي، كزيادة قدرة الجسم على تخزين الدهون وتقليل استهلاك الطاقة. وإذا ساعدت هذه التغيرات الشخص على البقاء على قيد الحياة، فمن المحتمل أن تنتقل هذه التعديلات إلى أبنائه.
تشمل هذه التغيرات أيضًا الجينات المرتبطة بالاستجابة للضغط النفسي والمناعة، وقد تؤثر على مدى تحمل الأجيال المقبلة للضغوط البيئية مثل شح الغذاء.
الدماغ أيضًا يتأثر
لا تقتصر تأثيرات المجاعة على الجسد فحسب، بل تمتد لتشمل نمو الدماغ والوظائف النفسية، إذ تشير الدراسات إلى أن الجوع في مرحلة الحمل أو الطفولة قد يؤدي إلى تغييرات في المزاج والقدرات الإدراكية، حتى لدى أبناء لم يعيشوا المجاعة بأنفسهم، لكنهم ورثوا آثارها من آبائهم أو أمهاتهم.
دراسات حيوانية تؤكد ذلك
في تجارب على الفئران، وُجد أن تلك التي عانت من نقص الغذاء خلال الحمل أنجبت نسلًا يعاني من القلق واضطرابات في الأكل. بل إن فترات الجوع المتقطعة التي تعرضت لها الفئران البالغة، أثرت لاحقًا على مستوى سكر الدم ودرجة حرارة الجسم، ما يعني أن جسمها تعلم التكيف مع الجوع وغيّر سلوكه لاحقًا للحفاظ على الطاقة.
غزة.. الجوع يتعدى الحاضر
في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن المجاعة التي تضرب قطاع غزة اليوم ليست مجرد أزمة غذائية، بل جرح طويل الأمد سيترك آثاره في صحة ونمو الأجيال القادمة. فحتى إن انتهى الحصار، وامتلأت البطون، تبقى الندوب الجينية، النفسية، والسلوكية محفورة في خلايا الضحايا وأبنائهم.
ويُعد إدماج الرعاية النفسية والدعم الغذائي طويل الأمد في خطط الإغاثة والتعافي أمرًا بالغ الأهمية، حتى لا تستمر المجاعة في حصد الأرواح بعد أن يظن العالم أنها انتهت.