بين قوسين: القانون الجنائي الجديد… حين يُستثنى الفساد من العقاب

بين قوسين: القانون الجنائي الجديد… حين يُستثنى الفساد من العقاب
بقلم: الدكتور عبدالإله طلوع – باحث في القانون العام والعلوم السياسية

مرة أخرى، يطفو على سطح النقاش العمومي سؤال جوهري: هل ما يزال الإصلاح التشريعي في المغرب يعبّر عن طموح مجتمعي لبناء دولة القانون؟ أم أن النصوص تُصاغ، وتُمرّر، وتُسوَّق، وفق منطق لا يقيم وزناً للملاحظات الدستورية، ولا للتوصيات الحقوقية، ولا لصوت المجتمع المدني؟

مناسبة هذا السؤال هي مصادقة البرلمان المغربي، يوم الثلاثاء 22 يوليوز 2025، على مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، بعد رفض جماعي لكافة التعديلات المقترحة من المعارضة، والتي بلغت ما يفوق 1300 تعديل.
فتمرير القانون جرى في جوّ يوحي بعودة المنهجية التقليدية في التشريع، حيث تُؤثّث النقاشات الشكلية، بينما يُقرّ المحتوى دون مساءلة.

لكن خلف الضجيج القانوني، يختبئ ما هو أخطر.
فالمواد الجديدة، وعلى رأسها المادة الثالثة، تمثل – في نظر العديد من الفاعلين الحقوقيين – رِدة صريحة عن مبادئ المحاسبة وربط المسؤولية بالجزاء، إذ تُحصر صلاحيات تحريك المتابعة في عدد محدود من الجهات القضائية، مع استبعاد شبه كلي لدور وكلاء الملك في قضايا تتعلق باختلاس المال العام أو تبديده، وهي خطوة تمسّ في العمق مبدأ استقلال النيابة العامة، وتحوّله إلى جهاز تابع في الملفات الحساسة.

في هذا السياق، حذّرت الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة “ترانسبرانسي” من خطورة هذا التوجه، معتبرة أن القانون في صيغته الجديدة يُشرعن الإفلات من العقاب بطريقة مؤسساتية، ويضرب دور المجتمع المدني في تتبع الجرائم المالية في مقتل. وقد صرّحت الجمعية، على لسان رئيسها، أن هذه المادة تُجهِز على مبدأ “الادعاء المستقل” وتحوّل محاربة الفساد إلى حقل مؤطر بإذن إداري أكثر منه مسؤولية قضائية.

أما ما يعمّق الجرح، فهو أن عدداً من المؤسسات الوطنية الدستورية – مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان وهيئة الوقاية من الرشوة – قد عبّرت عن ملاحظات جوهرية بشأن النص، إلا أن المشرّع اختار التجاهل، والمضي قُدماً بمنطق “الأغلبية العددية” بدل التوافق التشاوري. وهو ما يكشف، من جديد، حدود الإصلاح من الداخل، وتهافت الخطاب الرسمي الذي يُبشّر بعصر الشفافية والنجاعة.

وعندما تصبح أبواب الحوار مغلقة، كما عبّر عن ذلك رئيس الجمعية، تضطر المنظمات الحقوقية إلى سلوك مسارات أخرى، ومنها الترافع الدولي أمام الآليات الأممية ذات الصلة بمكافحة الفساد، وذلك بعدما فَقَدت الثقة في إمكانية التعديل من داخل المؤسسات الوطنية، وهو خيار، وإن كان ثقيلاً، إلا أنه بات ضرورياً للدفاع عن الحد الأدنى من المعايير الدولية في الشفافية والمحاسبة.

وزارة العدل، من جهتها، فضّلت سياسة الآذان الصماء، إذ تجاهل الوزير عبد اللطيف وهبي مختلف الدعوات للحوار، ولم يُجب على مراسلات جمعيات ومنظمات، كما لم يبادر إلى أي لقاء مفتوح مع الفاعلين المعنيين بالموضوع. مما يجعل مشروع القانون، في نهاية المطاف، نتاج غرفة مغلقة، لا تعبيراً عن توافق مجتمعي أو نتيجة لنقاش عمومي مفتوح.

وبينما تصرّ الحكومة على تسويق المشروع كخطوة نحو “تحديث العدالة الزجرية”، يراه العديد من المتتبعين نكسة تشريعية خطيرة، تكرّس غموض السلطة القضائية، وتُفرغ الخطاب الحقوقي من مضمونه، خاصة في زمن تتوسع فيه بؤر الفساد، وتُستنزف فيه الثروة العمومية دون محاسبة.

إن خطورة هذا القانون لا تكمن فقط في مضامينه، بل في السياق الذي أُقرّ فيه: سياق يتميز بتراجع الثقة في المؤسسات، وتضييق متزايد على أدوار المجتمع المدني، وتحلل تدريجي من الالتزامات الدولية ذات الصلة بالحكامة، فحين يُستثنى الفساد من نطاق المحاسبة، وحين تُفرغ النيابة العامة من أدوات المبادرة، فذلك ليس مجرد تعديل قانوني، بل رسالة سياسية واضحة مفادها أن “اليد النظيفة” لم تعد أولوية، وأن القضاء، بدلاً من أن يكون ذراعاً للعدل، يُعاد تشكيله ليكون أداة صامتة.

إن الرهان اليوم لم يعد فقط على مراجعة بنود تقنية في مشروع قانون، بل على استرجاع روح التشريع كفعل ديمقراطي، يستجيب لنبض المجتمع، لا لإملاءات فوقية. وما لم يُفتح هذا الورش بنزاهة وشجاعة، فسنظل ندور في حلقة مفرغة، حيث تُكتب النصوص باسم الشعب، لكن ضد مصالحه.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *