المجلس الوطني للصحافة… الإصلاح بين جدية التشريع وعبث “اللا مهنة”

المجلس الوطني للصحافة… الإصلاح بين جدية التشريع وعبث “اللا مهنة”

إذا كان البعض قد استقبل مصادقة الحكومة على مشروعي القانونين 26.25 و27.25 ببرود أو تشكيك أو حتى بصراخٍ “نضالي” قديم العُهد، فإن المتتبع النزيه لواقع الصحافة المغربية لا يسعه إلا أن يقرأ اللحظة من زاوية أخرى: زاوية البناء وسط ركام، والإنقاذ قبل الغرق.

إننا أمام محاولة جادة ولو متأخرة ، لإعادة ترتيب البيت الصحافي الذي اخترقته كل أنواع الفوضى، وتسلل إليه من لا علاقة له لا بالمهنة ولا بأخلاقياتها، حتى غدت بعض المنصات الافتراضية، وتحديدا “اليوتيوب” و”تيك توك”، منصات لابتزاز البشر والمؤسسات، تُمارس فيها مهنة الصحافة تحت شعار: “اشتم تُشهر”، و”كذّب تُتابع”.

وفي خضم هذا التيه، تأتي خطوة الدولة، عبر إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، كمحاولة للضبط واسترجاع الهيبة، لا كوصاية على المهنة، بل كضرورة أخلاقية وتشريعية لضمان الحد الأدنى من الجدية والمصداقية.

وقد أحسنت الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين حين رفعت صوت العقل وسط الضجيج، وعبّرت بلغة واضحة عن دعمها لمشروع قانون يراد له أن ينقذ المهنة من “اللاشكل”، ويُعيد الاعتبار لأصحابها الحقيقيين، أولئك الذين يشتغلون داخل مقاولات تحترم نفسها، تؤدي ضرائبها، وتؤمن بحقوق العاملين بها، لا أولئك الذين يقتاتون من الإشاعة، ويخوضون في أعراض الناس باسم حرية التعبير.

ما لا يريد البعض فهمه أو يصر على تجاهله هو أن المهنة لا يمكن أن تُمارس بلا إطار ناظم، وبلا مؤسسات منتخبة أو منتدبة تحميها وتنظمها. وقد آن الأوان لنقولها بصوت عالٍ: من يخشى التنظيم الذاتي هو إما دخيل على المهنة، أو مستفيد من الفوضى.

وما يثير الاستغراب، هو هذا الهجوم الممنهج الذي صار يُوجَّه إلى المقاولات الصحافية الجادة، وكأن النجاح صار تهمة، والاستقلالية صارت عارا! في حين أن الصحافة القوية لا يمكن أن تنمو إلا في حضن مقاولة قوية، والعكس صحيح. أما من يرفعون شعار “الصحافة المناضلة”، دون التزام بالحد الأدنى من أخلاقيات المهنة، فهم في الغالب لا يناضلون إلا من أجل منافعهم الضيقة، تحت غطاء براق اسمه “النضال الإعلامي”.

إن التحدي اليوم ليس في تمثيلية فلان أو علان داخل المجلس الوطني للصحافة، بل في التوافق على منطق جديد: مهنة تمارس بكفاءة ومسؤولية، وفضاء منظم يحميها من التسيب، ومؤسسة قادرة على مساءلة المنتسبين، ومواكبة التحولات، وضبط الإيقاع بين حرية التعبير وحرمة الحياة الخاصة.

إن لحظة الإصلاح لا تحتمل هذا العبث. من أراد فعلا الدفاع عن الصحافة، فليبدأ بالدفاع عن القاعدة القانونية المجرّدة، عن الممارسة الأخلاقية، عن المقاولة المهنية، لا عن “اللافتات” الفارغة، أو “الهواتف” الملتصقة بالشاشة، التي تنطق بما لا يليق.

ولعلنا اليوم، بحاجة إلى أن نطرح سؤالا صريحا: هل نريد مجلسًا وطنياً للصحافة يضم الصحافيين الحقيقيين؟ أم نريده “سوقًا” للتنازع حول المقاعد؟

الاختيار الآن بين البناء أو الفوضى، بين الانتماء لمهنة راقية، أو الاستمرار في الانتحار البطيء باسم حرية مشوهة.

بوشعيب نجار

كاتب رأي وصحافي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *