لماذا يسقط المثقفون في فخّ السلطة؟

حين فرت الفيلسوفة والأستاذة الجامعية حنّة آرندت من جحيم النازية، لم تحمل معها فقط ذكريات الألم والمنفى، بل خرجت أيضًا بقناعة شخصية حاسمة: أن لا تثق مجددًا في مجتمع المثقفين. فقد رأت بأم عينيها كيف هرع الكثير من أصحاب العقول اللامعة إلى مبايعة السلطة النازية، وكيف خمدت أقلام كانت يومًا تُعَدّ منارات للحق والحقيقة، لتصير بوقًا للصمت والتواطؤ والخضوع.
تقول آرندت في أحد نصوصها: “كنت أعيش في وسط المثقفين، لكنني كنت أعرف أيضًا أناسًا من أوساط العمال والفلاحين. وقد لاحظت أن مسايرة التيار كانت القاعدة بين المثقفين، على عكس ما كان عليه الحال في الأوساط الأخرى (…) أقول هذا عن الماضي… لكنني اليوم أكثر تبصّرًا.”
هذا “المرض” ليس حكرًا على زمن أو مكان، بل هو آفة متكررة تصيب شريحة المثقفين والفنانين والمؤثرين، قديمًا وحديثًا، في الغرب كما في الشرق. فحين تشتد قبضة الاستبداد، لا يتقدم الصفوف إلا القليل من المثقفين الأحرار، فيما يتوارى الأغلب، أو يُسرع إلى خيمة السلطان طمعًا أو خوفًا أو توهمًا بالتأثير.
لكن لماذا يقع المثقف، وهو الحامل المفترض لرسالة الوعي والنقد، في فخ التبعية للسلطة؟ لماذا يخاف أكثر من غيره من قول الحقيقة؟ لماذا يهادن أو يبرر أو يختار الصمت؟ أهو الجبن؟ أم الطمع؟ أم هو شيء أعمق من ذلك كله؟
قد تكون الإجابات الأخلاقية (الجبن، الطمع، الخضوع) مغرية لتفسير هذا السقوط، لكنها لا تكفي. ولهذا حاول كثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة تفكيك هذه العلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة. ويمكن أن نلخص بعض الفرضيات التفسيرية في ثلاث مقاربات: أنانية المثقف وصعوبة المراجعة
يعيش المثقف من أفكاره، يكتبها ويدافع عنها ويقدّمها لجمهوره كحقائق ناضجة. لذلك، فإن الاعتراف بالخطأ، أو التراجع عن موقف سابق، يشكل ضربة قاسية لصورته أمام ذاته أولًا، ثم أمام الناس. يقول أحد المفكرين: “كل من يعيش من الأفكار، من كتّاب وسياسيين وصحفيين، لديه الكثير ليخسره إن اعترف بالخطأ.”
وهكذا، قد يتمادى المثقف في موقفه الخاطئ دفاعًا عن صورته، لا عن الحقيقة، خاصة حين يكون قد راهن مبكرًا على نظام سياسي أو توجه سلطوي معيّن.
الانحياز الإيديولوجي والعمى عن الواقع المثقف، بسبب اطلاعه المعرفي واتصاله بالمفاهيم الكبرى، قد يُصاب بوهم امتلاك الحقيقة. لكنه حين يرتبط بإيديولوجيا ما، سواء كانت يسارية أو قومية أو دينية، قد يُغمض عينيه عن الانتهاكات التي ترتكبها الأنظمة المتحالفة مع تلك الإيديولوجيا.
مثال ذلك جان بول سارتر، أحد أبرز فلاسفة اليسار في القرن العشرين، الذي لم يرَ، أو لم يُرِد أن يرى، الجرائم الفظيعة التي ارتكبها النظام الستاليني في الاتحاد السوفياتي، رغم زيارته للبلاد واستماعه لشهادات حية من ضحايا الغولاغ. فحين يكون الولاء للإيديولوجيا أقوى من الولاء للحق، يُصاب البصر والبصيرة معًا بالعمى.
وهم التأثير عبر القرب من السلطة كثير من المثقفين يتوهمون أن قربهم من السلطة يمنحهم قدرة أكبر على التأثير وتحقيق مشاريعهم الفكرية. يعتقدون أنهم إذا اقتربوا من مراكز القرار، سيستطيعون تمرير أفكارهم وتطبيق رؤاهم على أرض الواقع.
لكن الحقيقة غالبًا ما تكون عكس ذلك. فالسلطة لا تريد من المثقف إلا التصفيق، أو على الأقل، الصمت. وحين يقترب منها، يُطلب منه أن يتخلى عن لغته النقدية، وعن استقلاله المعرفي، مقابل امتيازات مادية أو رمزية. وهكذا يدخل في علاقة مسمومة، يخسر فيها صدقيته، وتُقايض فيها حريته بوهم التأثير.
ما قيمة الموهبة إن لم تكن حرّة؟ وما جدوى الثقافة إن كانت أسيرة البلاط؟ المثقف الذي يبرر القمع، أو يهادن الفساد، أو يصمت على الظلم، لم يعد مثقفًا، بل صار موظفًا في قسم العلاقات العامة للسلطة. الحرية ليست مجرد شعار، بل امتحان يومي. والمثقف الحقيقي هو من اختار موقعه خارج دوائر النفوذ، لا لأن في ذلك بطولة، بل لأن ذلك شرط أصيل لصدق الكلمة وعمق الفكر.فماذا عنكم؟ هل تعتقدون أنه يمكن لمثقف أن يظل حرًا ومستقلًا وهو داخل دوائر القرار؟ أم أن من يقترب من السلطة، يحترق بضوئها عاجلًا أو آجلًا؟