أكاديميات بلا رؤية: أزمة تنفيذ السياسات التربوية أم أزمة في مفهوم التربية ذاته؟

أكاديميات بلا رؤية: أزمة تنفيذ السياسات التربوية أم أزمة في مفهوم التربية ذاته؟
بقلم: د. عبد الإله طلوع باحث في القانون العام والعلوم السياسية

حين يُعلن المجلس الأعلى للتربية والتكوين عن فشل الأكاديميات الجهوية في تنزيل السياسات التربوية، فإننا لا نواجه فقط خللاً تقنيًا في بنية الإدارة، بل نُحيل على سؤال فلسفي أعمق: هل نملك فعلًا سياسة تربوية بالمعنى القيمي؟ أم أننا نكتفي بتدبير أعطاب بنيوية متكررة دون مساءلة أسس المشروع التربوي نفسه؟
هل الأكاديميات الجهوية كائنات مؤسسية مكتملة الأهلية، أم أنها مجرد آليات بيروقراطية لصرف ميزانيات وتنفيذ قرارات مركزية قد لا ترى الواقع إلا من شرفة المركز؟

إشكال المعنى: هل نُخطط للتربية أم نُدير البقاء؟

في كل حديث رسمي عن “إصلاح التعليم”، تغيب الإجابة الصريحة عن سؤال أولي: لماذا نُصلح؟ ومن نُصلح؟ وبأي تصور للإنسان والمجتمع؟
إذا كانت المدرسة فضاء لتكوين الإنسان المواطن، فأين هي تربية المواطنة في المناهج؟
إذا كانت فضاء لتكافؤ الفرص، فأين هو التكافؤ بين أبناء الأحياء الراقية وأبناء الهوامش؟
الواقع يُشير إلى أن المدرسة المغربية، كما تُدار، تُشبه إدارة الأزمات أكثر مما تُشبه بناء الإنسان. ألا يعني هذا أننا نُدير البقاء لا نُخطط للتربية؟

فوضى اللامركزية: تمكين بلا سلطة؟

يتغنى الخطاب السياسي بالجهوية المتقدمة، ولكن الواقع التربوي يفضح جهوية شكلية تُغطي مركزية شديدة.
الأكاديميات الجهوية تشتغل في هوامش القرار، محكومة بتعليمات فوقية، وتخوض معارك التنفيذ بأدوات منزوعة الصلاحية.
كيف نطلب منها الإبداع والمرونة في التسيير، ونحن نحاصرها بنصوص جامدة ونُحيلها على “توجيهات المركز” في كل تفصيل؟
أليست هذه لامركزية زائفة؟ وهل يُمكن لإدارات بلا قرار أن تخلق تعليمًا له روح؟

العدالة المجالية: تعليم بسرعتين؟

عندما نتحدث عن “الوحدة الوطنية” في النظام التربوي، يصبح السؤال حتميًا: هل يُعقل أن نُعطي نفس الفرص لكل التلاميذ، بينما يعيش البعض في مدارس تفتقر إلى أبسط شروط التعليم؟
بينما تستمتع الأكاديميات في المدن الكبرى بالموارد والبرامج التربوية المدعومة، تجد الأكاديميات في المناطق الهامشية تُكابد من أجل تأمين أدوات التعليم الأساسية.
هل يُعقل أن يُطلب من أكاديمية في الأطلس الكبير أو المناطق النائية أن تُنفذ نفس البرامج التي تُنفذ في الدار البيضاء أو الرباط، بينما هي تفتقر إلى المعلمين، البنى التحتية، وحتى الوسائل التعليمية الضرورية؟
هذه المفارقة تُظهر أن “السياسة التعليمية الموحدة” هي مجرد شعار، وأن الواقع يشير إلى تعليم بسرعتين: سرعة للفئة المميزة وسرعة للمناطق المحرومة.

البيروقراطية: حين تُغتال الاستجابة بالتسلسل الإداري

من داخل الأكاديميات نفسها، يشكو المسؤولون من صعوبة التحرك: قرارات تتطلب توقيعات متعددة، وانتظار “الرأي من الوزارة”، وتقارير تستهلك وقتًا أطول من الفعل نفسه.
هل يمكن لمدير أكاديمية أن يُنفذ سياسة ما في ظرف زمني معقول، بينما يُنتظر منه تعبئة “نظام الإعلام”، وتحديث تقارير “الأداء”، وتبرير كل درهم مصروف؟
هل تحولت الرقابة الإدارية إلى عقبة في طريق الفعل التربوي؟
وهل يُمكن لعقل بيروقراطي أن يُنتج مدرسة مُبدعة ومتحررة ومرتبطة بواقعها؟

من المسؤول الحقيقي عن التربية؟ سؤال الفاعل التربوي الغائب

إن أكبر مأزق يعيشه النظام التربوي المغربي هو غياب الفاعل الحقيقي.
المعلم منهك ومُهان في كثير من الحالات، الأسرة غائبة أو مغيّبة، المجتمع المدني يُمنح أدوارًا هامشية، والجماعات الترابية لا تملك القدرة ولا الرغبة غالبًا.
من المسؤول إذن عن قيادة المشروع التربوي؟ هل نُعوّل على وزارة تُدير من الرباط ملفات لا تعرف عنها إلا بالأرقام؟
ألا يجب أن نعيد التفكير في الديمقراطية التربوية: حيث تشارك الجماعات المحلية، والمجتمع المدني، والآباء، والأكاديميات، في صياغة القرار التربوي لا فقط في تنفيذه؟

التكوين والكوادر: هل نُعلم بلا معلمين؟

التعليم لا ينهض بالبرامج وحدها، بل بالمعلم الإنسان، القادر، المتوازن، والمحفز.
ولكن هل نملك اليوم معلمًا بهذه المواصفات في كل ربوع المملكة؟
معلم اليوم يُواجه الاكتظاظ، التنقلات العشوائية، النقص في التكوين، ضعف الحوافز، وغياب الأفق.
نُطالبه بتنشئة الجيل الجديد، بينما لا نوفر له أبسط شروط الكرامة المهنية.
هل نُصلح التعليم ونحن لا نُصلح حال المعلمين؟ وهل نُربي الأطفال، بينما نُحبط من يُفترض أن يكون قدوتهم الأولى؟

 

في الختام أي مدرسة نريد؟

أمام هذا الواقع، تتعدد الأسئلة أكثر من الأجوبة:

هل نُريد مدرسة تُنتج المعنى، أم تُعيد إنتاج الرداءة؟
هل الأكاديميات مجرد أدوات تقنية، أم ينبغي أن تكون فضاءً للتفكير والقرار والمبادرة؟
متى ننتقل من إصلاح التعليم إلى بناء رؤية مجتمعية للتربية؟
وهل نملك الشجاعة السياسية لنقول: إن فشل الأكاديميات هو فشل للدولة في منح التعليم ما يستحقه من وضوح، وجرأة، وتشاركية؟

لعل أول إصلاح يجب أن يبدأ من هنا: من الجرأة على طرح الأسئلة التي طالما أُسكتت.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *