حين سقط الطباشير من يد المعلم: عنف التلميذ وسقوط السلط الرمزية في المغرب

حين سقط الطباشير من يد المعلم: عنف التلميذ وسقوط السلط الرمزية في المغرب
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في القانون العام والعلوم السياسية

ليس جديدًا أن نسمع عن تلميذٍ شتم أستاذه أو ضربه، لكن الجديد أن نسمع هذا كل أسبوع. في الزمن الذي كان فيه المعلم يُهاب، لم يكن ذلك ناتجًا عن سوطٍ يلوّح به، بل عن سلطة رمزية كانت تُغلّف حضوره، وتجعله يُرى في المجتمع بوصفه ناقلًا للنور، ومؤطِّرًا للوعي، ورمزًا للقيم. أما اليوم، فالمعلم متَّهَم، ومهدَّد، وفي بعض الحالات، معاقَب أكثر من المعتدي عليه. فكيف تحوّل حارس المعرفة إلى موضوع شفقة، أو حتى سخرية؟ وكيف نقرأ هذا التحوّل في سياق مغربي يزداد فيه منسوب العنف ضد الأساتذة، ليس كاستثناء، بل كعرضٍ من أعراض أزمة أعمق؟

في عمق هذه الأزمة، لا نجد فقط فشلًا تربويًا أو ضعفًا مؤسساتيًا، بل انهيارًا بنيويًا للسلط الرمزية داخل المجتمع. المعلم، كما الأب، ورجل الدين، والمثقف، والقاضي، كانوا يمثلون، كلٌّ في موقعه، حلقات من سلطة تُنظّم الجماعة وتوجهها. لكننا نعيش اليوم ما يمكن أن نسميه “الديمقراطية الفوضوية للذات الفردية”، حيث يعتقد كل فرد – حتى الطفل – أن له الحق في التعبير بأي طريقة، وبلا قيد، وبلا اعتبار للهُوية الرمزية لمن يخاطبه. إنها حرية بلا مسؤولية، وتمرّد بلا مشروع، و”حق” بلا واجب.

لقد روّجت بعض السياسات التعليمية – بحسن نية أحيانًا وبسوء تقدير في الغالب – لفكرة أن العقاب سلبي دومًا، وأن “التلميذ محور العملية التربوية”، حتى صارت المؤسسة التعليمية فضاءً تتحرك فيه “الأنا” المتضخمة للمتعلمين، أكثر مما تتحرك فيه الرغبة في التعلُّم. غاب الانضباط، فغابت الرغبة في التعلُّم. ثم، شيئًا فشيئًا، تحوّل القسم إلى حلبة، و”السطار” إلى لغة، والاحترام إلى ضعف.

هذا لا يعني بالطبع أن الضرب هو الحل، ولا أن العودة إلى العنف الرمزي أو الجسدي ستعيد الهيبة المسلوبة. بل إنّ إشكال الضرب، في ذاته، لم يكن أبدًا سببًا في تخلفنا كما يظن كثيرون. فتاريخنا المغربي مليء بأمثلة لنظمٍ تربوية كانت حازمة وربما صارمة، ومع ذلك كوّنت علماء ومثقفين وفاعلين في التاريخ. إن ما تغير حقًا ليس الوسيلة، بل القيمة. لم نعد نربي على الاحترام، بل على “الندية” المصطنعة، وكأن الطفل في حاجة إلى من يصادقه لا من يرشده. غيّبنا الرموز في الأسرة، وفي المدرسة، وفي الإعلام، ثم تساءلنا: من أين جاء هذا العنف؟

العنف ضد الأستاذ اليوم ليس فعلًا معزولًا، بل صرخة مجتمع فقد بوصلته القيمية. هو تعبير عن تلميذٍ لم يتعلم حدود ذاته، لأن أحدًا لم يرسم له خارطة الحدود. هو أيضًا نتيجة لتحولات اجتماعية واقتصادية حادة، جعلت المعلم فقيرًا، محبطًا، خائفًا، مترددًا. صار التلميذ يراه في الشارع يركب حافلة مهترئة، أو ينتظر السلف من جمعية القروض، أو يشتكي من أجر لا يكفيه لأسبوع. كيف سيهابه؟ كيف سيعتبره مرشدًا أو نموذجًا؟ لقد سقطت قدسيته قبل أن يسقط الطباشير من يده.

وفي السياق المغربي تحديدًا، لا يمكننا تجاهل دور السياسات العمومية في تكريس هذه الوضعية. فبدل أن نُعيد الاعتبار للمهنة، ونحصنها قانونيًا ورمزيًا، شُرّعت قوانين تزيد من هشاشة المعلم، وتُقحِم المدرسة في حسابات بيروقراطية تُغيب بعدها التربوي الأصيل. ولعل حوادث الاعتداءات المتكررة التي يشهدها المغرب، من ضرب، وشتم، وإذلال، بل وتصوير مقاطع تُنشر على مواقع التواصل، ما هي إلا مرآة لهذه الرداءة الجماعية التي نشارك فيها جميعًا: أسرة، ومدرسة، ودولة، ومجتمعًا.

إننا بحاجة اليوم إلى مصالحة مع رموزنا، لا بإعادة العنف، ولكن بإعادة الهيبة. إلى مشروع تربوي يعيد رسم حدود الحرية داخل القسم، إلى خطاب إعلامي يُظهر المعلم باعتباره فاعلًا لا ضحية، وإلى تشريعات تحميه وتُعيد له مكانته. لا يمكن لمجتمع أن يحترم القانون، إن لم يتعلم احترام من يُعلمه القانون، ولا أن يبني مستقبله، إن لم يحترم من يُعلم أبناءه كيف يفكرون فيه.

أعيدوا للمعلم قدسيته… لا لأنه معصوم، بل لأنه أساس.
وإذا كُسرت أعمدة البيت، فلا تلوموا من دخله لينهب

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *