غزة : بين النكسة الإعلامية والخذلان السياسي العربي

غزة : بين النكسة الإعلامية والخذلان السياسي العربي

بقلم : بوشعيب نجار 

تشهد غزة في الايام الاخير واحدة من أعنف الهجمات التي تعرضت لها في تاريخها الحديث، وسط تصعيد عسكري دموي أدى إلى سقوط آلاف الضحايا من المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ. هذه المشاهد المفجعة تضع القضية الفلسطينية مجددًا على طاولة النقاش الدولي، لكنها في الوقت ذاته تفضح هشاشة الموقف العربي وتناقضات الخطاب الإعلامي، سواء في الإعلام العربي أو الغربي.

منذ اندلاع المواجهات الأخيرة، اختارت بعض القنوات الإعلامية العربية التعاطي مع الحدث من زاوية التمجيد البطولي، مصورةً الهجوم الفلسطيني على المستوطنات الإسرائيلية باعتباره تحولا استراتيجيا وانتصارا مبهرا. استضافت محللين عسكريين متقاعدين، استخدمت لغة مشحونة بالعاطفة وتعبئة الشعوب العربية ، لكنها تجاهلت الحسابات الواقعية لحجم التبعات الكارثية لهذا التصعيد.

هذا المشهد يعيد إلى الأذهان تجربة حرب الخليج الثانية “العراق”، حيث أغرق المشاهد العربي بأوهام القوة والصمود، قبل أن تنكشف الحقائق الميدانية القاسية بعد سنوات. واليوم، يتكرر السيناريو في غزة، حيث أُعطي الناس انطباعا بأن المقاومة الفلسطينية قد تمكنت من تغيير موازين القوى، قبل أن يستيقظ العالم على مشاهد الدمار المروّع، وانهيار البنية التحتية، وحصار خانق يهدد حياة الملايين.

على الأرض، لا تزال غزة تحت وطأة القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي، في ظل كارثة إنسانية تتفاقم كل يوم. الكهرباء مقطوعة، المياه شحيحة، الإمدادات الغذائية والطبية على وشك النفاد، والمستشفيات، مثل مستشفى الشفاء، تعجز عن التعامل مع الأعداد الهائلة من المصابين. ومع كل هذا، يواصل العالم العربي دور المتفرج، مكتفيًا بموجات استنكار دبلوماسية لا تترجم إلى أي خطوات ملموسة.

بينما تصطف الأساطيل الأمريكية والغربية لدعم إسرائيل ميدانيا ولوجستيا، تكتفي الحكومات العربية بإصدار بيانات تفتقر لأي قوة تأثيرية على المشهد السياسي الدولي. الشعوب العربية، من جهتها، تنخرط في مسيرات الغضب والتنديد، لكنها لا تمتلك أدوات الضغط الحقيقي التي يمكن أن تحدث فرقًا على الأرض.

في الضفة الأخرى، يبرز النفاق الغربي في أوضح صوره، حيث يتصدر الإعلام الدولي قصص الرعب التي عاشها الإسرائيليون في هجوم المقاومة، في حين يُغيّب تمامًا السياق التاريخي والسياسي للصراع، فضلًا عن التعتيم على الجرائم الإسرائيلية المستمرة منذ عقود. المأساة الفلسطينية يتم تقديمها كحادث عرضي، بينما يتم تصوير الرد الإسرائيلي الوحشي على أنه دفاع مشروع.

هذا الانحياز الإعلامي والسياسي ليس جديدا، لكنه أصبح أكثر فجاجة مع تصاعد اليمين الإسرائيلي وتحالفه الوثيق مع القوى الغربية. في ظل هذا المشهد، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة النظر في استراتيجيات المواجهة الإعلامية والدبلوماسية العربية، بدلا من الاستمرار في دوامة البيانات الجوفاء والمزايدات الخطابية.

لقد آن الأوان للخروج من دائرة الخطاب العاطفي الذي يبيع الأوهام للجماهير العربية، واستبداله برؤية واقعية تستند إلى التحليل العقلاني والاستراتيجيات الفعالة. المثقفون والإعلاميون العرب مطالبون اليوم بأدوار أكثر تأثيرا، من خلال مواجهة التضليل الإعلامي، وكشف ازدواجية المعايير الدولية، والعمل على توحيد الجهود لكسر الجمود السياسي الذي يحيط بالقضية الفلسطينية.

إن الصراع في غزة ليس مجرد جولة عسكرية أخرى، بل هو تذكير صارخ بفشل النظام العربي في التعاطي مع جوهر القضية الفلسطينية. وإذا استمر الوضع كما هو، سنجد أنفسنا بعد سنوات في نفس الدوامة، نشاهد نفس المشاهد، ونردد نفس العبارات، بينما الواقع لا يتغير سوى للأسوأ.

إن الخروج من هذا النفق المظلم يبدأ بطرح الأسئلة الصحيحة: كيف يمكن للفلسطينيين بناء موقف تفاوضي قوي دون أن يكونوا مجرد وقود في معارك غير متكافئة؟ كيف يمكن للعالم العربي أن يتجاوز مرحلة الشعارات إلى مرحلة الفعل الحقيقي؟ والأهم، كيف نضمن أن تكون التضحيات الفلسطينية مدخلاً لحل سياسي عادل، وليس مجرد أرقام تُضاف إلى قوائم الضحايا؟

الوقت ليس في صالحنا، لكن إدراك الأخطاء الماضية قد يكون بداية لوعي جديد… إن أردنا ذلك فعلًا.

2 thoughts on “غزة : بين النكسة الإعلامية والخذلان السياسي العربي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *