حينما تفتح الحافلة أبوابها : أول دفعة من الأســ ـرى الفلسطــ ـينيين تغادر إلى غــ ـزة

مع بزوغ فجر يومٍ جديد، إنطلقت أول حافلة من أصل 38، محمَّلة بالأسرى الفلسطينيين المفرَج عنهم، في رحلة مؤثرة إلى قطاع غزة، ليكتبوا فصلاً جديدًا من الحرية بعد سنوات من الأسر و الإنتظار.
كانت الحافلة الأولى عبارة عن رسالة بليغة : لم يكن ما حدث مجرد تنقُّلٍ بين معابر، بل لحظة تاريخية تصفع الظلم و تُخلّد النضال. عند معبر كرم أبو سالم جنوب القطاع، دخلت المجموعة إلى غزة وسط ترقّب شعبي عارم، حيث إستقبلها أهالي الأسرى و الزغاريد تعلو السماء و كأنَّ الأرض نفسها كانت تبكي فرحًا.
في تلك اللحظة، تمازج الألم مع الأمل، و الدمعة مع الإبتسامة، حينما مدّت الأيادي لإستقبال من خاضوا قسوة السجون، و أطلقوا العنان لأصواتهم المحلقة في الهواء. لم تنكسر الحافلة تحت وطأة المشاعر، بل بدت و كأنها مشعل نداء : هنا نعود، و إن طال الإنتظار.
لم يكن الوصول سهلاً، فالأسرى المفرجون نقلوا فورًا إلى المستشفى الأوروبي في خان يونس، لإخضاعهم للفحوصات الطبية الضرورية بعد سنوات من الإهمال و التعذيب.
خلال تلك الرحلة القصيرة بين المعبر و المستشفى، تعرّفت الجموع على جثث مظللة بالآلام، على أرواح أُجبرت أن تنحني لسنوات، على أجساد ترتجف من البرد و المرض قبل أن تلامس أرض الوطن.
هذه الحافلة الأولى، من بين 38 المقرَّر لها أن تنقل دفعات الأسرى خلال مراحل صفقة التبادل، لم تكن مجرد وسيلة نقل، بل شاهد حي على أن المعاناة الفلسطينية ليست مجرد إحصاء، بل قصص تُوشَح بالأسماء، بالدم، بالوجع، و أخيرًا بالإنفراجة.
من بين الداخلين على متنها، نساء و أطفال، و رجال تجاوزوا عمرهم في الظلام، لا يعرفون الوقت إلا بذكرى الإعتقال أو وعد الإفراج.
بعضهم خرج ضيفًا على الشمس بعد سنوات من الحرمان، و بعضهم خرج و كسوره لا تُرى إلا في الأجساد و العيون المبللة بالأمل.
الطريق أمام هذه الحافلة أولًا، ثم أمام دفعات أخرى، ليس معبَّدًا بل متشحًّا بالصعوبات : أفاعٍ سياسية، عوائق لوجستية، ضغوط دولية، و أخيرًا سؤال واحد يطغى : هل ستكون هذه اللحظة بداية لإعادة الحقوق، أم مجرد إستراحة مؤقتة ؟
أُرسِمت ملامح اليوم الجديد بخطوط الألم و النصر : من باب الحافلة إلى إستقبال الجموع، و من عتمة السجن إلى شمس غزة. في هذه اللحظة، إلتقت ذرات الغبار بالدموع، و إلتقت قلوب الغائبين بالحاضر، و قالت الحافلة الأولى : ها نحن قادمون.